في 25 ايار 2014 بعد تهديدات لا تحصى لها ولعائلتها، اغتيلت سلوى بوقعيقيص، بعد قليل من تصويتها في انتخابات ليبيا البرلمانية.
أصدرت هيومن رايتس ووتش اليوم تحية التقدير التالية إلى سلوى بوقعيقيص، الناشطة البارزة في مجال حقوق الإنسان والمرأة التي اغتيلت في ليبيا يوم 25 يونيو/حزيران 2014:
إسكات صوت ليبي شجاع
بقلم بيتر بوكيرت
كانت الناشطة الحقوقية البارزة سلوى بوقعيقيص تمثل على الدوام مشهداً يلفت الأنظار في بنغازي، فقد كانت، بتخليها عن الحجاب ومشيتها الواثقة إلى اجتماع بعد الاجتماع، واحدة من القلة التي واصلت تحدي المليشيات الإسلامية رغم التهديد والعنف المتصاعدين. وقد استمرت، بعد سنوات من التصدي لطغيان معمر القذافي والدفاع عن النشطاء الإسلاميين، الذين حاول بعضهم الآن فرض وجهات نظرهم عليها وعلى غيرها من السيدات، استمرت في الذود عن نفسها وعن سائر سيدات ليبيا.
وفي يوم الأربعاء، بعد تهديدات لا تحصى لها ولعائلتها، اغتيلت سلوى، بعد قليل من تصويتها في انتخابات ليبيا البرلمانية. وبوفاتها تلقت الأفكار المثالية الأصلية لانتفاضة 2011 التي خلعت طغيان القذافي ضربة ساحقة جديدة، وفقدت الكثيرات من سيدات ليبيا قدوة ومثلا يحتذى.
قابلت سلوى للمرة الأولى حين كنت مع أحد الزملاء ضمن أوائل الأجانب الواصلين إلى بنغازي في منتصف فبراير/شباط 2011. وكانت أيام قليلة قد مرت على نجاح احتجاجات الربيع العربي، ضد كل التوقعات، في انتزاع السيطرة على شرق ليبيا من جيش القذافي الوحشي، وبعد أيام من قتل المتظاهرين في الشوارع. وعند وصولنا إلى المحكمة ببنغازي، مساء ذلك اليوم، كانت حشود هائلة من المتظاهرين تحتفل في الخارج بحريتهم التي وجدوها مؤخراً، عالقين بين نشوة التحرر والخوف من المجهول القادم.
وبداخل المحكمة وجدنا الأشخاص الذين قادوا المظاهرات ـ وهم مجموعة يصعب توقع اجتماعها من المحامين الليبراليين، والأكاديميين، والنشطاء، والأطباء وغيرهم من المثقفين. وقد يكون تخيل هذا صعباً بالنظر إلى العنف المذهل الذي يجتاح ليبيا اليوم، لكن المثالية المحلقة كانت تملأ الأجواء في تلك الأيام الأولى من الانتفاضة الليبية. كان الجميع يتحدثون عن بناء ليبيا جديدة تكفل حقوق الإنسان للجميع، ليبيا تعمها الحرية وتستغل مواردها النفطية والغازية الهائلة في تنمية شعبها ورفاهيته. كانت الأسلحة وفيرة، بالطبع، لكن المليشيات لم تكن بعد قد أدارت البنادق ضد بعضها البعض.
وكانت سلوى بوقعيقيص وشقيقتها إيمان ضمن أوائل من التقينا بهم من النشطاء المعارضين للقذافي، وتوثقت عرى الصداقة بيننا. كانت إيمان في ذلك الوقت تقوم بدور المتحدثة باسم المجموعة، بينما كانت سلوى في هيئتها الحاكمة ـ المجلس الوطني الانتقالي ـ تحاول التصدي للمهام المهولة المقبلة.
وقد علمنا بمجرد وصولنا إلى بنغازي تقريباً أن عشرات الأشخاص من دول أفريقية أخرى، متهمين بأنهم مرتزقة موالون للقذافي، كانوا محتجزين على أيدي قوات ثورية مزعومة بالطابق الأعلى من المحكمة، إلا أن مجموعة من الحراس الجهمين منعونا حين حاولنا زيارتهم. ومضيت أبحث عن سلوى، وحين شرحت لها مشكلتنا استأذنت على الفور من الاجتماع الذي كانت تحضره وصعدت معي.
وفي الطريق سمحت لنفسها، لبرهة وجيزة، بالانهيار باكية وهي تطلعني على العبء الثقيل الذي تنوء به، في مخالفة لتماسكها المعهود.
قالت لي سلوى: “لم نكن نحلم، مجرد الحلم، بأن تنجح انتفاضتنا بهذه السرعة. وعلينا الآن أن نبدأ من الصفر. لقد دمر القذافي كل مؤسساتنا ولم يترك سوى الخوف في الحكم. أرجوك أن تبلغ العالم بأن يكون صبوراً معنا”. فطمأنتها إلى أننا ندرك التحديات المقبلة، وأننا سنساعد النشطاء الليبيين في النضال من أجل حقوق الإنسان.
وعند وصولنا إلى الحراس ألقت عليهم محاضرة شديدة اللهجة، فقالت: “هؤلاء أصدقاؤنا من هيومن رايتس ووتش، وقد جاءوا لزيارة إخوتنا في سجن أبو سليم. ليس لدينا ما نخفيه عنهم، فاسمحوا لهم بزيارة المحتجزين”.
وانفتحت الأبواب، وسُمح لنا بالدخول. وسرعان ما تأكدنا من أن المحتجزين المساكين لم يكونوا مرتزقة، بل عمالاً أفارقة علقوا في موجة عنيفة من العداء للأجانب. ورتبت سلوى أمر الإفراج عنهم.
كانت سلوى بالنسبة للعديد من الليبيات مثال المهنية الواثقة التي تتطلعن إليها. وحين قررت صديقة ليبية شابة التخلي عن دراستها في لندن والذهاب إلى بنغازي لمساعدة الثورة، كانت سلوى أول شخصية تلتقي بها، الشخصية التي ضمتها تحت جناحيها.
قالت إيمان لـ هيومن رايتس ووتش في 2012: “كانت الثورة زلزالاً هز الوضع الثقافي للمرأة في ليبيا. ونحن لا نريد أن نخسر ما اكتسبناه، كسيدات ليبيات”.
وأمنت سلوى على هذا الرأي: “لم نكن قد شاركنا قط في احتجاجات من قبل. كانت محرمة علينا. لكن الثورة جعلتنا نشعر بالفخر لوجودنا على الخطوط الأمامية، واضطر الرجال لتقبلنا. أما الآن فإن البعض يرون أن الوقت قد حان لعودة المرأة إلى البيت”.
ومع وجود أجزاء كبيرة من ليبيا خارج سيطرة الحكومة، وتحت سيطرة المليشيات بدلاً منها، سرعان ما وجدت إيمان وسلوى نفسيهما تناضلان في مجتمع اشتدت فيه سطوة البندقية. واصلت الاثنتان إثارة الحقائق “المحرجة”، ومحاولة التمسك بالمثالية الأصلية للانتفاضة رغم انحراف الأمور عن المسار المأمول، وتزايد العنف. لكنهما لم تستسلما قط، في إصرار على أن هؤلاء الذين قدموا أرواحهم أثناء انتفاضة ليبيا إنما قدموها آملين في مستقبل أفضل، وأكثر انفتاحاً، يوفر حقوق الإنسان للجميع، وعلى أن التخلي عن ذلك الحلم ليس سوى خيانة لتضحياتهم.
كانت سلوى تؤمن إيماناً لا يتزعزع بالحوار وبالعملية الديمقراطية كسبيل للخروج من الورطة التي صارت ليبيا إليها. وبصفتها نائب رئيس لجنة الإعداد لمبادرة الحوار الوطني، لم تتوقف قط عن الحشد من أجل هذا.
والمفجع أن التصويت في الانتخابات البرلمانية ببنغازي يوم أمس كان آخر عمل عام تؤديه.
فما أشق تقبل الأمر الواقع؛ واقع أن سلوى، منارة الأمل والعزيمة في أعين العديد من الليبيين، لن تعود تزرع شوارع بنغازي في تحد للمواضعات والتقاليد يجسد ما كانته .. سلوى.
تركت سلوى خلفها زوجاً لم يزل مفقوداً بعد الكمين الذي نصب لمنزلهما في بنغازي، وثلاثة أطفال. لكننا، كما وعدناها في بنغازي أثناء الأيام الأولى للثورة، سنظل بجانب النشطاء الليبيين، نناصل من أجل مستقبل حقوقي أفضل لجميع الليبيين، فأي شيء آخر، كما ظلت تذكرنا دائماً، سيكون من قبيل الخيانة.