كانت ثلاث منظمات فلسطينية حقوقية رائدة على الأقل- الحق ومركز الميزان لحقوق الإنسان وبديل (المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين)- قد أعلنت في وقت سابق عن تعرض بعض العاملين فيها- يقطن بعضهم مدن أوروبية، لأشكال مختلفة من الترهيب وصلت لحد التهديد بالقتل.
ظهر هذا المقال أولاً على موقع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في تاريخ 19 أوغسطس 2016.
يعرب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عن تضامنه الكامل مع شركاءه من المنظمات الحقوقية الفلسطينية الرائدة، والمجموعات العاملة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، والتي تواجه مؤخرا حملات تشهير وهجمات ومضايقات غير مسبوقة من أجل تقويض عملها المهني، لتحقيق المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني التي تشهدها الأرض المحتلة.
هذه الاعتداءات ليست بجديدة، بل هي جزء من سياسية إسرائيلية مستمرة ترمي لاستهداف الأصوات المنتقدة لنظام الاحتلال المطول وانتهاكاته الممنهجة للحقوق في الأرض الفلسطينية المحتلة، إلا أن بلوغ الترهيب حد التهديد بالقتل وامتداده لعائلات الحقوقيين وذويهم، يمثل تطورا خطيرا يبعث المزيد من القلق، ويتطلب وضع حد له على الفور وفتح تحقيق مستقل حول هذه الحوادث الموثقة لضمان مثول الجناة أمام العدالة.
كانت ثلاث منظمات فلسطينية حقوقية رائدة على الأقل – الحق ومركز الميزان لحقوق الإنسان وبديل (المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين)- قد أعلنت في وقت سابق عن تعرض بعض العاملين فيها – يقطن بعضهم مدن أوروبية، لأشكال مختلفة من الترهيب وصلت لحد التهديد بالقتل، سواء من خلال مكالمات ورسائل هاتفية أو عبر البريد الالكتروني من مجهولين، أو من خلال رسائل وضعت على أبواب منازل بعض العاملين ومعها صور خاصة بذويهم، فضلا عن تلقي أفراد عائلاتهم اتصالات هاتفية مجهولة تهدد سلامتهم حال استمرت تلك المنظمات في عملها. وكم من دلائل تشير بأصابع الاتهام لجهاز الأمن الإسرائيلي كمحرك أساسي لهذه الممارسات.
لقد سبق وتعرضت المنظمات الثلاثة – إلى جانب منظمات ومجموعات رائدة أخرى- إلى حملة تشويه من قبل مجهولين تستهدف الطعن في مصداقيتها ومهنية عملها، وتبديد أموال الجهات المانحة، و تتهمها بالفساد بين شركائها وفي الصحافة، بما في ذلك نشر مواد مضللة عن تلك المنظمات على المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي والقوائم البريدية. وبنهاية 2015 اتخذت حملة التشويه منحى جديد أكثر تنظيما و وضوحا حينما بدأت المنظمات المذكورة في التواصل المباشر والنشيط مع مكتب النائب العام للمحكمة الجنائية الدولية حول التحقيقات الأولية التي بدأها المكتب عن الوضع في الأرض المحتلة.
هذه الهجمات لا يمكن فصلها عن سياقها الأوسع، حيث يتم قمع و استهداف الحركات الشعبية و الأنشطة والمبادرات السلمية التي ينخرط فيها المجتمع المدني الفلسطيني لمواجهة الانتهاكات الحقوقية المختلفة في الأرض المحتلة.
فعلى سبيل المثال ، رفضت السلطات تجديد وثيقة سفر عمر البرغوثي منسق اللجنة الوطنية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) ومنعه من السفر وتهديده بإلغاء إقامته في القدس الشرقية، وذلك تزامنا مع حملة تحريض ضارية يقودها كبار المسئولين الإسرائيليين ضد الحركة ككل، كدعوة وزير النقل والاستخبارات والطاقة الذرية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، علنا إسرائيل للخوض في حملة “تصفية مدنية” تستهدف قادة حركة المقاطعة، بدعم من الاستخبارات الإسرائيلية.
أن السلطات الإسرائيلية تستهدف أيضا بشكل مباشر المحاميين الفلسطينيين، وعددا من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي على جانبي الخط الأخضر، بسبب دفاعهم عن حقوق الفلسطينيين، ومن بينهم المحامي الفلسطيني محمد عياد، الذي اعتقل وألزم بالإقامة الجبرية في منزله على خلفية عملة كمنسق للحملة الشعبية للإفراج عن جثامين الفلسطينيين الذين قتلوا بسلاح الجيش الإسرائيلي عقب هجمات عنيفة مزعومة ضد الإسرائيليين. إذ تحتجز إسرائيل حاليا جثامين 15 فلسطينيا، معتبرة أن حرمان ذويهم من حقهم في إقامة مراسيم الدفن المناسبة وفقا لمعتقداتهم الدينية وسيلة لردع المزيد من الهجمات، الأمر الذي يعتبر وفقا للقانون الدولي بمثابة عقاب جماعي ينتهك القانون الدولي العرفي.
في 1 مايو الماضي اعتقلت السلطات الإسرائيلية أيضا المنسق الإعلامي لمؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، حسن الصفدي، وذلك عقب زيارته للبنان (المعلنة كدولة عدو لإسرائيل) ومشاركته في منتدى الشباب العربي. وعلى الرغم من أن المحكمة قضت بالإفراج عنه بكفالة- دفعها أهله على الفور- إلا أن السلطات الإسرائيلية أصدرت أمر اعتقال إداري بحقه لمدة 6 أشهر، علما بأن أوامر الاعتقال الإداري قابلة للتجديد لأجل غير مسمى وتستند لـ “أدلة سرية” لا يطعن عليها أمام المحاكم.
ووفقا لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، اعتقلت السلطات الإسرائيلية حوالي 150 شخص في الفترة بين أكتوبر 2015 وفبراير 2016 على خلفية تدوينات “سياسية” على مواقع التواصل الاجتماعي. إذ أعلنت الحكومة الإسرائيلية بشكل واضح عن انتهاجها إستراتيجية لمكافحة نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وأكدت على ذلك خلال اجتماعات مع شركتي جوجل ويوتيوب، فضلا عن أن الحكومة الإسرائيلية سبق واتهمت موقع فيسبوك مرارا بمشاركته بنشر رسائل تحريضية ضد إسرائيل .
هذه السياسة القمعية الإسرائيلية لا تستهدف المنظمات الحقوقية الفلسطينية فحسب، ولكنها تمتد – ولو بوتيرة أقل- لتشمل المنظمات الحقوقية الإسرائيلية التي تعمل على حقوق الفلسطينيين. إذ يفرض مشروع قانون المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية أو ” قانون الشفافية” المصدق عليه الشهر الماضي على المنظمات التي تتلقى أكثر من 50 في المائة من تمويلها من حكومات أجنبية الإدلاء بتقارير مالية إضافية للحكومة الإسرائيلية، كما يفرض على المنظمات التصريح علنا عن مموليها، ويستهدف هذا القانون 27 منظمة فقط – 25 منها تابعة”للتيار اليسار”- معظمها منظمات حقوقية ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الفلسطينيين.
يأتي هذا القانون ضمن حملة تشويه واسعة بقيادة مجموعات من أقصى اليمين- بينهم مسئولين إسرائيليين- تستهدف منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية التي تعمل على التوثيق والمناصرة ضد انتهاكات حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة، على غرار “بيتسليم” و منظمة “كسر الصمت”، وتركز الحملة على الادعاء بأن هذه المنظمات هم وكلاء للدول الأجنبية التي تهدف التدخل في الشؤون الداخلية الإسرائيلية.
في السياق نفسه تستمر إسرائيل بلا هوادة في سياسة ضم وتجزئة الأرض الفلسطينية المحتلة، وتقليص المساحات المخصصة للفلسطينيين وتوسيع المستوطنات. فخلال الأسبوع الجاري صادقت المحاكم الإسرائيلية على مخطط لإنشاء مستوطنة جديدة جنوب القدس الشرقية المحتلة. كما تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الشهر الماضي بتوسيع وتحصين المستوطنات في الخليل ومنطقة جنوب الخليل. في الوقت نفسه، وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (OCHA)، شهد عام 2016 أعلى نسبة هدم للمنازل وتهجير للمجتمعات الفلسطينية.
وبالتزامن مع هذه السياسة التوسعية، تتصاعد موجة الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك عمليات القتل خارج نطاق القانون، و حالات الاعتقال والاحتجاز والتعذيب والحرمان من حرية التنقل والحق في الحياة العائلية، ومجموعة واسعة من الممارسات التي تشكل خروقات سافرة للحقوق الأساسية المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
إن الظلم الذي يعيشه الفلسطينيون منذ خمسة عقود، وحرمانهم التام من الحق في تقرير المصير، وانتزاع الملكية والتهجير لا يمكن معالجته بتكميم أفواه معارضيه، إذ لا يوجد خيار أخر للتصدي لهذا الوضع إلا برفع الظلم وضمان الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. فالتضييق على الأنشطة السلمية يقوض قدرة المجتمع المدني على انتهاج السبل القانونية والسلمية لمواجهة تلك الانتهاكات. وعلى الدول التي يتواجد بها المدافعين الفلسطينيين المهددين اتخاذ خطوات جادة لحمايتهم وضمان سلامتهم وتمكينهم من القيام بمهام عملهم. كما يجدر بمسئولي الأمم المتحدة المختصين، بما في ذلك الأمين العام والمفوض السامي لحقوق الإنسان، أن يعربوا عن قلقهم إزاء هذا الوضع، ويحرصوا على فتح تحقيق ذو مصداقية حول تلك الهجمات باعتبارها أعمال انتقامية محتملة ضد المدافعين عن حقوق الإنسان، بسبب التزامهم وتعاونهم مع آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وغيرها من مؤسسات المساءلة الدولية.