من المتوقع أن تقوم الجامعات بحماية الطلبة والموظفين في الحرم الجامعي، لكن في ظل مناخ يفرض الحصار والسيطرة على مؤسسات التعليم العالي٬ والتدخل في شؤونها ويطلق يد الأجهزة الأمنية للتعامل مع أي تحرك طلابي سواء كان سلمي أو يتضمن بعض أعمال العنف٬ فهل مثل هذه الحماية فعلياً قابلة للتطبيق؟
يلوح هناك جدار طويل يلف المنطقة بأكملها وتعلوه قضبان معدنية ويتولى حراسة مبانيه المستظلة في الداخل أعضاء من شركة أمن خاصة يقفون أمام بوابات إلكترونية وضعت للتحكم بعملية الدخول وتحتل الشوارع المحيطة. وتقف عربات مدرعة تابعة لقوات الأمن الحكومية على أهبة الاستعداد لتنفيذ اوامر قادتهم.
هكذا تبدو إحدى أقدم الجامعات الحكومية في مصر اليوم؛ جامعة القاهرة. ويمر من أمام هذا المشهد المكثف أمنياً الآف الطلاب كل يوم للوصول إلى محاضراتهم. وذلك منذ الاطاحة بمحمد مرسي من منصبه في يونيو٢٠١٣ حين أصبحت الجامعات بشكل مطرد مراكز للاحتجاجات المناهضة للحكومة. ينتمي اغلب الطلاب المحتجين الى حركة الاخوان المسلمين و يعتبرون ابعاده انقلاب عسكري. لكن الاضطرابات لا تقتصر فقط على الاخوان، فقامت مجموعات طلابية اخرى بالانضمام للمظاهرات احتجاج على القمع والقيود المتزايدة على الحريات الجامعية.
في حين كانت تجري المواجهات بين الطلبة وقوات الشرطة خارج الجامعات في السابق، انتقلت الإشتباكات بشكل مطرد الى الحرم الجامعي و حتى مساكن الطلبة.
في أحد أيام تشرين الثاني في ساحة كلية الهندسة في جامعة القاهرة٬ وقفت مجموعة من الطلاب في حالة هسترية محاولين الهروب خوفا من الاختناق أو الإصابة. وذلك بعد قيام افراد من الشرطة من ضباط ومجندين بإطلاق قنابل الغاز وطلقات الخرطوش داخل أسوار الكلية مما دفع الطلاب للهرولة في كل اتجاه، وفجأة وجد طالب زميل له مُلقًا على الأرض. “بعد سماع صوت اطلاق النار لسا بلف لقيته واقع قدامي محمد رضا الله يرحمه .. ناس اتلمت حواليه وأنا رحت ناحيته لقيت جسمه بيتهز بشدة… وشوية ناس بصت على جنبه الشمال لقوا في فتحة في جسمه ورفعوا التي شيرت اللى هو لابسه وأنا ببص لقيت فتحة في جسمه مقدرش أحدد قطرها٬” قال الطالب في شهادته أمام النيابة.
قتل محمد رضا لمجرد تواجده في ساحة الكلية وقت الاعتداءات٬ قتل ولم تتم حتى الآن محاكمة القاتل.
منذ تولي عبد الفتاح السيسي منصبه في يونيو ٢٠١٤ ، تعرضت العديد من الجامعات الحكومية في البلاد لحملات أمنية مكثفة تهدف إلى قمع اي شكل من اشكال المعارضة. في تقريرها السنوي لعام ٢٠١٤ رصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير إعتداء قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية على الحرم الجامعي والتي بلغت ٨٨ حالة إقتحام من قبل قوات الشرطة للجامعات المصرية الحكومية وجامعة الأزهر٬ اسفرت عن مقتل ١٢ طالب داخل الجامعة أو في محيطها. ألقي القبض على٧٦٠ طالبًا داخل الجامعة أو اقتيدوا من منازلهم٬ وحتى الآن لم يطلق سراح سوى ٩٩ فقط. بالإضافة لاعتداء أفراد الأمن الإداري ومجهولين بزي مدني على مظاهرات وفعاليات طلابية٬ ومنع أنشطة الأسر والحركات الطلابية. بينما وصل عدد الطلاب المفصولين ٦٧٣ طالبًا بينهم ٤٠٠ حالة فصلٍ نهائيٍ.
في حين يفترض أن تقوم الجامعات بحماية الطلبة وأعضاء هيئة التدريس داخل الحرم الجامعي٬ ليس من الممكن مناقشة تحقيق هذه الحماية دون توافر مناخ يقدر و يحترم الحريات الاكادمية و استقلال الجامعات.
لبضع سنوات بعد ثورة يناير٬ وحتى قبلها بفترة وجيزة٬ تحققت العديد من المكاسب في النضال من أجل الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعات في مصر.
في أكتوبر ٬٢٠١٠ قبل بضعة أشهر فقط من الاطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك٬ تم إغلاق مكاتب الداخلية وطردها من حرم الجامعة. كما اصدرت المحكمة الإدارية العليا في مصر حكما قضائيا نهائيا أقر بعدم قانونية تواجد قوات الحرس الجامعي التابعة للوزارة وقالت المحكمة في حكمها٬ ” فضلاً عما أوجبه الدستور والقانون من كفالة استقلال الجامعات ٬ فإن أداء الجامعات لرسالتها يتطلب الالتزام بالضوابط التي اتبعتها الأمم المتقدمة في صونها لاستقلال جامعاتها ومؤسساتها التعليمية ٬ والتي تضمنتها التوصيات الصادرة عن العديد من الهيئات والمؤتمرات الدولية .”
لم يعد تدخل الأمن مرة أخرى في شئون الجامعة والتعدي على استقلالها هو التراجع الوحيد عن المكاسب التي حققها المجتمع الأكاديمي خلال السنوات القليلة الماضية. قبل تولي السيسي منصبه٬ كان يتم إنتخاب رؤساء الجامعات من قبل عمداء الكليات وأعضاء هيئة التدريس. لكن في عام 2014, أصدر السيسي قرارا بشأن تعديل قانون تنظيم الجامعات بما يسمح لرئيس الجمهورية بتعيين قيادات الجامعات على مستوى رؤساء الجامعات وحتى عمداء الكليات. ووفقاً لمرسوم أصدره في يناير عن تعاون وزارة التعليم مع الأجهزة الأمنية في عدم السماح لأكاديميين من السفر دون الحصول على موافقة أمنية مسبقة. سابقا تم استبعاد أساتذة جامعات متهمين بالمشاركة في انشطة حزبية وسياسية داخل الحرم الجامعي.
ففي ظل مناخ يفرض الحصار والسيطرة على مؤسسات التعليم العالي٬ والتدخل في شؤونها ويطلق يد الأجهزة الأمنية للتعامل مع أي تحرك طلابي سواء كان سلمي أو يتضمن بعض أعمال العنف٬ كيف من المفترض أن تقوم الجامعة بحماية من ينتمي إليها من طلاب وأعضاء هيئة التدريس؟
لا يمكن تجاهل دور طلاب الأخوان المسلمون في ممارسات العنف٬ أو محاولات السيطرة عندما كان التنظيم في سدة الحكم٬ لكن في كل الأحوال لا يمكن القياس بين الفترة الزمنية التي حاول فيها جماعة الأخوان إحكام السيطرة على الجامعة من خلال فرض التدخلات وممارسة الضغوط لمنع مناقشة بعض الموضوعات من خلال الترهيب باسم الدين. أو محاولة الاستحواذ على الاتحادات الطلابية وتحجيم المعارضين والتضييق عليهم. لكن نجح أعضاء المجتمع الأكاديمي في تحجيم ذلك والتصدي له على الأقل. واستطاعت قوى طلابية مستقلة أن تُحرز انتصارًامهمًا على طلاب الإخوان المسلمين في انتخابات الاتحادات الطلابية حتى أن الجناح الطلابي للجماعة لم ينجح في إحراز منصب رئيس اتحاد طلاب مصر في انتخابات العام الدراسي .٢٠١٢/٢٠١٣
في عام ٢٠٠٥ استطاع ما يقرب من ٤٠ عضو هيئة تدريس من خلال عرض خبراتهم والمناقشات التي تمت أن يصدر عن هذا المؤتمر “المؤتمر العالمي الأولي لرؤساء الجامعات” وثيقة بعنوان “إعلان الحرية الأكاديمية” أكد المشاركون من خلالها على أن: “رغم وجود إمكانية تهديد الحرية الأكاديمية من قبل العديد من المصادر من خارج وداخل المجتمع الأكاديمي٬ إلا أنه ثبت تاريخيا٬ أن مثل تلك التهديدات تأتي من الدولة التي غالبا ما تتعارض قوتها السياسية ومواقفها التنظيمية مع حاجة الجامعة للاستقلال المؤسسي.”
اليوم وتحت زعم مكافحة ومحاربة الإرهاب أصبح الرأي المعارض جريمة٬ أصبح الحق في التظاهر جريمة٬ أصبح استخدام الحق الدستوري في حرية التعبير معرضا للخطر. لدينا العشرات من الأمثلة التي تعبر بوضوح عن العودة إلي المربع صفر بل يمكن أن نقول أننا تراجعنا أبعد من ذلك من حيث حماية الحرم الجامعي من أي اعتداء, تدهور أوضاع الجامعات وخنق كل المساحات المفتوحة للنقاش أو التعبير الحر ٬ الذي يفترض أن يتميز بالحماية في مساحة إن البحث عن حل للمخرج من هذا الوضع المظلم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال منح المجتمع الأكاديمي ذاته الاستقلالية الكاملة في إدارة شئونه الخاصة والتعامل مع التحديات المستقبلية من خلال الإجراءات التي تحافظ على الحقوق والحريات الجامعية٬ دون أي تدخل من السلطة التنفيذية. وهذا المخرج لا يمكن الوصول إليه من دون توجه عام أكثر ديمقراطية نحو المجال العام واحترام القانون والدستور.
عماد مبارك هو المدير التنفيذي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، وهي مؤسسة تدافع عن استقلال الجامعات المصرية، هي عضو في شبكة آيفكس.