على الرغم من التهديدات والاعتداءات والسجن، لا تزال المراسلة البيلاروسية إيرينا خاليب من أبرز منتقدي "آخر دكتاتوري أوروبا".
لا يُسمح لك بالتفكير. إذا نسيت هذا الأمر، فستذكرك به شرطة مكافحة العقل-الأمنية بسرعة
يعتبر المدافعون عن حقوق الإنسان مقتل المراسلة الروسية آنا بوليتيكوفسكايا حدثاً بارزاً في سلسلة طويلة من التعديات الروسية على حرية التعبير. لكن بالنسبة لأولئك الذين يريدون إسكات الصحفيين الفضوليين – وخاصة النساء الصحفيات – تعتبر قضية “آنا بوليتيكوفسكايا” اختصار لجملة “ابق فمك مغلقاً”.
تعرف المراسلة البيلاروسية الحائزة على جوائز، إيرينا خاليب، هذا جيداً. “قبل بضع سنوات كنت بصدد التحقيق في العلاقة بين الرئيس لوكاشينكو، ووكالة المخابرات البيلاروسية والملياردير الروسي الراحل بوريس بيريزوفسكي”، كما تروي في مقابلة عام 2014. “تمت كتابة مقال ووصل لمكتبي في موسكو. بعد عشر دقائق وصلتني رسالة تقول: سيكون لك نفس مصير آنا بوليتيكوفسكايا”. كانت بوليتيكوفسكايا زميلتي من نوفايا غازيتا …. وفي اليوم التالي تلقت اتصال من رقم هاتف مجهول قائلاً: “لقد تم تحذيرك. سيتم قتلتك غداً، أيتها الوغدة”.
لدى خاليب، ذات خبرة صحفية لاكثر من عشرين عاماً. تلقت جائزة الشجاعة في الصحافة لعام 2009 لعملها على كشف وإدانة الفساد السياسي. ولكن تقاريرها جلبت لها تهديدات بالقتل، والترهيب، والاستجوابات الليلية المطولة، والضرب على أيدي الشرطة والمخابرات البيلاروسية.
اختبرت خاليب وحشية الأجهزة الأمنية في روسيا البيضاء بشكل شخصي في عام 1997، عندما كانت تغطي مظاهرة ضد الوحدة المقترحة مع روسيا. على الرغم من سلمية المتظاهرين، ولكن الشرطة لم تكن كذلك. ضُربت خاليب حتى وقوعها على الأرض وجرها من شعرها في الشارع. تعرض والدها الكبير في السن للضرب، وهو صانع أفلام وثائقي كان يغطي المسيرة أيضاً، حتى فقده للوعي. بلا عجب، تركتها هذه التجربة في صدمة.
غالباً ما يشار إلى روسيا البيضاء على أنها آخر دكتاتورية في أوروبا. وقد بقي الرئيس الكسندر لوكاشينكو في السلطة هناك منذ عام 1994، في معاملة تمزج بين القمع العنيف والانتخابات الفاسدة، التحكم في الصحافة، والتنظيم الشديد للأنشطة السياسية والدينية وسجن المعارضين والتعذيب. أدين نظام لوكاشينكو مراراً بانتهاكات حقوق الإنسان من قبل الاتحاد الأوروبي، ومنعت من دخول مجلس أوروبا وانتقدت عام 2016 من قبل مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في روسيا البيضاء بسبب “المضايقات التي يتعرض لها أولئك الذين يحاولون ممارسة حرياتهم الفردية والمدنية والسياسية، وغيرها من الحقوق.”
وجاءت التجربة الأكثر صدمة لخاليب في عام 2010، عندما شن النظام البيلاروسي حملته على الأصوات المعارضة. في 19 كانون الأول من ذلك العام، وبينما كانت في مقابلة لمحطة إذاعة روسية، تعرضت خاليب للضرب من قبل الشرطة وألقت القبض عليها. كانت تراسل من مظاهرة مناهضة للوكاشينكو، اقتحمت الشرطة باستخدام الهراوات والقنابل الصوتية. كانت خاليب واحدة من ما يقرب من 600 شخصاً. اعتقلوا زوجها، المرشح الرئاسي المعارض اندريه سانيكوف، وتعرض للضرب المبرح والاعتقال أيضاً. أخذوهما لمركز احتجاز المخابرات.
بعد القبض عليها، وضعت خاليب في زنزانة منفردة وحرمت من الزيارات والعلاج الطبي. تم نهب منزلها من قبل عملاء المخابرات الذين استهدفوا أيضاً والدتها وابنها ذو ثلاث سنوات، وإرغامهما للخضوع لاختبار الأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي.
اتُهمت خاليب زوراً “بتنظيم اضطراب شامل” ووضعت تحت الإقامة الجبرية الصارمة لمدة خمسة أشهر في حين انتظارها المحاكمة. “حاول أن تتخيل غرفة معي” قالت عام 2014، “مع ابني الصغير واثنين من ضباط المخابرات الذين يعيشون معنا في مراقبة 24 ساعة في اليوم. لا يسمح لي بالعمل، كتابة الرسائل أو أي اتصال مع العالم الخارجي”. سُمح لخاليب بزيارت محددة من والدتها وكان ممنوعاً عليها النظر من النوافذ. “ضباط المخابرات يتتبعوني في كل مكان”، قالت. “يأتون إلى غرفة نومي كل ليلة فقط للتأكد من أنني لا أزال هناك.”
يوم 16 أيار 2011، أدينت خاليب بالتهم الموجهة لها، و حُكم عليها بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة عامين. أتاح لها الحكم نوع من الراحة الساخرة، لأنه أطلق سراحها من قيود الإقامة الجبرية. أدين زوجها بنفس التهم وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة خمس سنوات. تم إعفائه وأطلق سراحه في نيسان 2012.
منذ انتهاء الحكم الصادر ضدها في تموز 2013، واصلت خاليب انتقاداتها لحكم لوكاشينكو. يظهر غضبها جلياً لمحاولات روسيا البيضاء في “تحديث” صورتها العامة دون أي معالجة للفساد في قلب النظام، في مقالة كتبتها Charter97 في عام 2016. لن تسمح خاليب بتغييب الحقيقة:
“ما زلت لا أستطيع فهم هذا السيل من الكلمات العسلية التي لا نهاية لها في الشبكات الاجتماعية، وحتى بعض وسائل الإعلام: “مينسك مدينة أوروبية! بيلاروس أوروبا! يُسمح لنا بالاستماع لموسيقى الجاز يوم السبت … يمكنك أن تشرب وترقص بشكل قانوني هنا، مشغل الاسطوانات هنا – إنها أوروبا، والفتيات السكارى تترنح من السيارة”… ألا يتذكر هؤلاء المثقفون أنه لا يوجد الحرية في هذا الغيتو؟ … ما من قيم أوروبية في الدكتاتورية .. القواعد بسيطة للجميع: اجلس بلا حراك ولا تتدخل. كحول أيام الجمعة، وموسيقى أيام السبت، وجنس أيام الأحد، والإعدام يوم الإثنين إذا نسيت هذا الأمر، فستذكرك به شرطة مكافحة العقل-الأمنية بسرعة”.
هناك أوجه تشابه واضحة بين الأحداث الرهيبة لعام 2010 وقمع الدولة العنيف للاحتجاجات المناهضة للوكاشينكو التي بدأت في صيف عام 2020. لقد بحثت تحليلات كاليب في هذه الأحداث، وكانت صريحة في الدعوة إلى إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وفرض عقوبات دولية على النظام البيلاروسي.
إن موقفها يتسم بالتفاؤل الجريء. ففي مقال نشرته في شهر أيلول عام 2020، وصفت آلاف المتظاهرين السلميين المناهضين للوكاشينكو بـ “الجنود”، وقالت عن تجربة المقاومة ما يلي:
“لقد كان أصعب صيف في حياتنا. لقد كان أجمل صيف في حياتنا. الآن العالم كله يصلي ويقلق علينا. وفي أعماقه، يشعر بالغيرة بعض الشيء منا: لم تشهد أي دولة أخرى في العالم مثل هذا الصيف الرائع”.
إن القمع العنيف المستمر على الإعلام البيلاروسي المستقل لم يثنِ خاليب عن عملها كمراسلة مينسك للصحيفة الروسية المستقلة نوفايا غازيتا، كما لم يخفف من أسلوبها الصريح في الكلام، كما ظهر في مقالتها لتشرين الأول/ أكتوبر 2021 حول فشل السلطات الكبير في التعاطي مع جائحة كوفيد-19، العائد إلى “سخرية ووقاحة وخداع تلك السلطات” بحسب خاليب.
الرسم من فلوريان نيكول