دفع الصحفي الإيطالي روبرتو سافيانو ثمناً باهظاً لشكفه الجريمة المنظمة في نابولي؛ ولكن على الرغم من تدابير الحماية التي يعيش فيها الآن والتي قيدت حياته بشكل كبير، فإن ذلك لم يُسكِت قلمه.
"بعد ثماني سنوات تحت الحراسة المسلحة، فان التهديدات ضد حياتي بالكاد تظهر في الأخبار. اسمي غالبا ما يرتبط مع مصطلحات الموت والقتل".
كتب الصحفي روبرتو سافيانو في عام 2015: “بالنسبة للكثير من الناس، الكتابة هي مجرد عمل نقوم به بدون عواقب. ولكن بالنسبة للآخرين، الأمر ليس كذلك”. سافيانو هو احد ” الآخرين”. حيث تحاول كامورا (مافيا من نابولي) قتل سافيانو منذ عام 2006، وهو العام الذي قام فيه بنشر كتاب جومورا الذي كشف عن عالمهم.
ومنذ أكثر من عقد من الزمان، كان سافيانو يعيش تحت حماية الشرطة. ويجب عليه التخطيط مسبقاً لكل شيء في حياته؛ ولا يمكنه عمل أي شيء بشكل ارتجالي. وكانت النتيجة فادحة:
“هذه الحياة مقرفة- من الصعب وصف مدى سوء ذلك. أنا موجود داخل أربعة جدران، والبديل الوحيد هو الظهور العام. أكون إما في أكاديمية نوبل أجري مناقشات حول حرية الصحافة، أو داخل غرفة بلا نوافذ في ثكنة للشرطة. النور والظلام. لا يوجد ظل، لا يوجد شيء وسط. في بعض الأحيان أعود إلى الوراء للحظة التي انقسمت فيها حياتي قبل كتاب جومورا وبعده. حيث يوجد قبل وبعد لكل شيء، بما في ذلك الصداقة. فقد فقدت أشخاص ذهبوا بعيداً لأنهم وجدوا أنه من الصعب جدا الوقوف إلى جانبي، وهناك أشخاص وجدتهم بجانبي لحسن الحظ في السنوات القليلة الماضية. والأماكن التي كنت أعرفها من قبل تغيرت عن التي أذهب إليها الآن. لقد أصبحت نابولي خارج حدودي ومكان يمكن زيارته فقط في ذكرياتي. أنا أسافر في جميع أنحاء العالم، أتنقل من بلد إلى آخر كالشطرنج لإجراء البحوث لمشاريعي، والبحث عن أي بقايا لحريتي الممزقة”.
بدأ سافيانو العمل في الصحافة عام 2002. وظهرت مقالاته في وقت مبكر في المجلات والصحف مثل بولب، دياريو، سود، وال مانيفيستو وعلى موقع نازيون إنديانا. وكان أيضاً مساهماً في وحدة الإبلاغ عن كامورا بمجلة كوريير ديل ميزوجيورنو. ولكن جلب كتاب جومورا له الشهرة والمأساة في جميع أنحاء العالم.
جومورا هو كتاب جريمة حقيقية على عكس أي كتاب آخر. ويحتوي على سلسلة من مشاهد الجريمة يُنظَر إليها من خلال عيون الروائي. وتكون وجه نظره في بعض الأحيان باردة وتحليلية، وفي أوقات أخرى غاضبة ومثيرة للاشمئزاز. ويُظهِر الكتاب لنا الحرب بين العشائر وعصابات الأطفال في سترات واقية من الرصاص. ويستكشف الأرض الأخلاقية الغير مشروعة التي تقع على حواف الرأسمالية، حيث يتقاطع السوق “المشروع” مع السوق الغير مشروع، وحيث تجري صناعة الأزياء صفقات مشبوهة مع الشركات التجارية في نابولي باستخدام كامورا. وقبل كل شيء، يغادر جومورا بعيدا بعباءة عدم الكشف عن هويته وهو الأمر الذي كانت كامورا تزدهر به دائماً. ولم يكن ذلك مقبولاً لدى زعماء هذه العشائر المجرمة.
لقد ظهرت أول علامة على أن حياة سافيانو قد تغيرت إلى الأبد عندما تم وضع ورقة في صندوق بريد والدته بعد وقت قصير من نشر جومورا؛ واحتوت الورقة على صورة لابنها مع بندقية موجهة نحو رأسه وكلمة “مُدان”. وبعد ذلك بوقت قصير، وجدت الشرطة رسائل من زعماء كامورا المسجونين تقول إن سافيانو كان سيقتل: وتم تعيين اثنين من ضباط الشرطة لحمايته. ومنذ ذلك الحين، ازدادت الإجراءات الأمنية حول سافيانو؛ وهو يعيش حاليا مع فريق من عشرة حراس شخصيين، ويتنقل معهم في كل مكان بسيارتين واقيتين من الرصاص.
لقد تلقى سافيانو التهديدات بأشكال عديدة. وكانت بعضها صريحةً؛ والبعض الآخر بشكل غير مباشر ولكنها ليست أقل شراً. وفي شهر آذار من عام 2008، خلال ما يسمى بمحاكمة سبارتاكوس، قرأ محامو دفاع اثنين من زعماء كامورا في المحكمة رسالة (موقعة من قبل الزعماء) ادعت أن موكليهم اعتقلوا فقط بسبب عمل سافيانو وصحفي آخر. ولقد كان ذلك عملا تخويفياً، واعترفت به السلطات على أنه كذلك. ونتيجة لذلك، اتُهِم الزعماء ومحاموهم بالقيام بتهديدات “على غرار المافيا”. وتم تعزيز الأمن حول سافيانو. وكان هذا التعزيز مطلوباً، ففي وقت لاحق من ذلك العام، كشف عضو سابق في كامورا عن خطة لقتل الصحفي وحراسه “بحلول عيد الميلاد”.
وازداد القلق الدولي حول سلامة سافيانو في كل مرة يتم الإبلاغ فيها عن مؤامرة اغتيال جديدة. وفي أواخر عام 2008، قدم ستة من الفائزين الدوليين بجائزة نوبل (بمن فيهم ميخائيل غورباتشوف وغونتر غراس والأسقف ديزموند توتو) عريضة للحكومة الإيطالية لتوفير حماية أفضل للصحافي و (ربما بشكل متفائل) هزيمة كامورا مرة واحدة وإلى الأبد. ونشرت الصحيفة الإيطالية، لا ريبوبليكا، عريضة على الإنترنت، مما استطاع الناس العامة إضافة أسماءهم عليها (وقام بالتوقيع عليها أكثر من 150 ألف شخص). وأظهرت مدن إيطالية مختلفة دعمها لسافيانو من خلال منحه الجنسية الفخرية. ولكن ذلك لم يجعل حياته أسهل أو أكثر أمان.
ولعله من المثير للسخرية أن آخر التهديدات لحياة سافيانو أتت من أولئك المسؤولين عن حمايته. ففي عام 2018 كتب سافيانو مقالةً عبر فيها عن خوفه على بلاده من موقف الحكومة الإيطالية المناهض للمهاجرين ولغجر الروما. رداً على ذلك، وعلى انتقاداتٍ أخرى من سافيانو، هدد وزير الداخلية في حينه، اليميني المتطرف ماتيو سالفيني، برفع حماية الشرطة عن سافيانو.
في أيار/مايو من عام 2021، انتهت محاكمة عضو كامورا، فرانسيسكو بيدوغنتي، ومحاميه ميشيل سانتوناستاسو – المتهمين بتهديد حياة سافيانو وصحفي آخر. هؤلاء كانا الرجلين اللذين قدما أثناء محاكمة “سبارتكوس” الآنفة الذكر مستنداً يشير صراحةً بإصبع الاتهام إلى الصحفيين على أنهما الملامان على محاكمة رؤساء مافيا كامورا. بعد محاكمة دامت 13 سنة، أدانت المحكمة بيدوغنتي و سانتوناستاسو.
بدأت إجراءات محاكمة سافيانو بتهمة التشهير الجنائي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، بعد أن وصف رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة، جيورجيا ميلوني، “بابنة حرام”. جاء تعليق سافيانو ردًا على دعوة ميلوني لإعادة المهاجرين إلى أوطانهم، وإغراق القوارب المستخدمة لإنقاذ اللاجئين من البحر. في حالة إدانته، يواجه سافيانو ما يصل إلى ثلاث سنوات في السجن.
في المحاكمة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، طلب ماتيو سالفيني، زعيم رابطة الشمال “ليغا نورد” اليميني المتطرف (الذي وصفه سافيانو أيضًا بأنه “ابن حرام”) قبوله كمدعي في المحاكمة. لدى سالفيني دعوى تشهير أخرى معلقة ضد سافيان، بدأت في 2018.
انضمت آيفكس إلى مجموعات حرية الصحافة الأوروبية والإيطالية في دعوة ميلوني إلى إسقاط الدعوى القضائية على الفور ضد سافيانو، ودعوة إيطاليا لإدخال تشريعات مناهضة “SLAPP” (التقاضي الاستراتيجي ضد المشاركة العامة) للتصدي لاستخدام هذه الدعاوى القضائية الكيدية.
أُدين سافيانو بتهمة التشهير الجنائي لرئيسة الوزراء ميلوني، وتم تغريمه بمبلغ 1000 يورو، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد عام تقريبًا من بدء محاكمته. حضرت منظمة القلم الدولية جلسة الاستماع النهائية تضامنًا مع سافيانو. أدانت العديد من منظمات حرية التعبير (بما فيها عدد من أعضاء آيفكس) الحكم في بيان مشترك:
” أن إدانة روبرتو سافيانو الجنائية هي مثال خطير يمكن أن يزيد من محاولات إسكات التعليقات الإنتقادية للمسؤولين الحكوميين والقادة السياسيين، ونعتقد أنها تحمل عواقب وخيمة، ليس فقط على روبرتو سافيانو، ولكن أيضا على حرية الصحافة الأوسع في إيطاليا.”
تلقى روبرتو سافيانو العديد من الجوائز بسبب عمله، بما فيها جائزة بن/ بينتر وجائزة أولوف بالم في عام 2011. ويواصل عمله من غرف الفنادق والأماكن الآمنة، ويركّز عمله الصحفي على الجريمة المنظمة.الرسم من فلوريان نيكول
الرسم من فلوريان نيكول