كرّست بيرتا كاسيريس حياتها في بناء حركة لحماية البيئة والدفاع عن حقوق الشعوب الأصلية. حاولوا اسكات حركتها بقتلها، ولكن ضاعف موتها من قوة رسالتها.
إنهم يخشوننا لأننا لسنا خائفين منهم
عندما فازت بجائزة جولدمان البيئية لعام ٢٠١٥، كانت بيرتا كاسيريس أمضت عقودًا في بناء حركة لحماية والدفاع عن أرض شعب لينكا الأصليين في هندوراس. أسست بيرتا المجلس المدني للمنظمات الشعبية والشعوب الأصلية (كوبينه) وتحدت شركات طاقة كهرومائية وتعدين قوية في عملها من أجل الحفاظ على البيئة. وفي خطاب قبولها لجائزة جولدمان، أهدت جائزتها إلى “الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل النضال في الدفاع عن مواردنا الطبيعية“. ولم تكن تعلم أنها بعد أقل من سنة واحدة ستنضم إلى قائمة طويلة من النشطاء قدموا الثمن الأغلى في سبيل الدفاع عن البيئة.
وُلِدت كاسيريس في لا اسبيرانزا، في غرب هندوراس، ونشأت في السبعينات – في وقت شهد الاضطرابات والعنف الأهلي في أمريكا الوسطى. وكانت والدتها، برثا، عمدة وحاكمة وقابلة أيضًا، وربّت بيرتا وأشقائها على الإيمان بالعدالة. فعندما كانت طالبة في عام ١٩٩٣، شاركت كاسيريس في تأسيس “كوبينه” وساعدت على تسخير قوة مجتمع السكان الأصليين في وقت لم يكن فيه السكان الأصليون في هندوراس مصدرا للفخر أو القوة. ويتكون كوبينه حاليا من ٢٠٠ مجتمع من لينكا فى غرب هندوراس، ويحارب من أجل حقوق شعب لينكا في الدفاع عن أرضهم وطريقة حياتهم ضد التعدين والسدود وغيرها من المشاريع الضارة بيئيًا.
في عام ٢٠٠٦ بدأت كاسيريس حملة طويلة الأمد ضد مشروع أجوا زاركا الكهرومائي لبناء أربعة سدود على نهر جوالكارك. وكان نشطاء لينكا المحليون في ريو بلانكو قلقين من أن السدود ستقلل من وصولهم للمياه وتلحق الضرر بالبيئة المحيطة بهم، ومن عدم استشارتهم في المراحل الأولى من تخطيط المشروع، مما يخالف اتفاقية منظمة العمل الدولية التي صادقت عليها هندوراس. وتلقى مجتمع ريو بلانكو وكوبينه خلال عملهما تهديدات عديدة على مر السنين.
عندما أطيح بالرئيس مانويل زيلايا في انقلاب عسكري في يونيو/حزيران عام ٢٠٠٩، تعرّض الناشطون والقادة المحليون الذين شنوا حملات للتغيير مرة أخرى للتهديد. قبل الانقلاب، نجح نشطاء هندوراس في دفع زيلايا لاتخاذ قرارات حسّنت حياة الناس في هندوراس مثل خفض الرسوم المدرسية، ورفع الحد الأدنى للأجور، ومنع العديد من المشاريع الكهرومائية.
وفي ٢٨ يونيو/حزيران عام ٢٠٠٩، وضعت لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان كاسيريس في قائمة الأشخاص المعرضين للخطر أثناء الانقلاب، وضمنها الزعماء الشعبيون الآخرون والموظفون العموميون والأشخاص ذوات الصلة بالرئيس المخلوع. وفي اليوم التالي، منحت اللجنة كاسيريس تدابير وقائية لحمايتها، وطالبت حكومة هندوراس ضمان “بقائها على قيد الحياة وسلامتها الشخصية”. وفي ذلك الوقت، تلقت اللجنة تقارير تفيد بأن القوات العسكرية حاصرت منزلها.
وفقًا لتقرير جلوبال ويتنس، قتل ١٠١ ناشطًا بيئيًا في هندوراس بين عامي ٢٠١٠ و ٢٠١٤. وعلى الرغم من التهديدات والعنف الشديد الذي اشتد مع تداعيات الانقلاب، واصلت كاسيريس وكوبينه أنشطتهم بما فيها الحملات ضد مشروع أجوا زاركا. وفي عام ٢٠١٣، قتل الجيش الهندوراسي توماس جارسيا، ممثل مجلس السكان الأصليين في لينكا خلال مظاهرة سلمية. وعقب القتل، انسحب سينوهيدرو وهو مستثمر صيني من مشروع أجوا زاركا.
في عام ٢٠١٤، كانت كاسيريس في القائمة النهائية لجائزة فرونت لاين ديفندرز لعام ٢٠١٤، وحصلت في عام ٢٠١٥ على جائزة جولدمان البيئية التي تكرم “أبطال البيئة الشعبيون” وجهودهم في حماية وتحسين البيئة، غالبا على حساب سلامتهم الشخصية. أما ماكسيما أكونيا، الناشطة من بيرو فقد فازت بجائزة جولدمان للأمريكيتين في عام ٢٠١٦، وكانت قد واجهت تهديدات متكررة واعتداءات جسدية ومضايقات من الشرطة بسبب جهودها من أجل الدفاع عن أرضها.
أصدرت لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان بيانًا صحفيًا بعد يومٍ من اغتيال كاسيريس، وأشارت فيه أن اللجنة اجتمعت قبل أشهر مع وفد من هندوراس وتحدثت عن المخاطر التي لا تزال تواجه كاسيريس، كما أشارت إلى “أوجه القصور في تنفيذ التدابير الوقائية” التي كان من المفترض أن تكون الدولة وفرتها.
لسوء الحظ، لم يكن لدى كاسيريس أي حماية عندما قُتِلت بالرصاص في منزلها ليلة ٢ مارس/آذار عام ٢٠١٦. كما أصيب الشاهد الوحيد على عملية قتلها، وهو الناشط المكسيكي غوستافو كاسترو سوتو، بالرصاص لكنه تظاهر بالموت حتى غادر المهاجمون. واحتجزته السلطات فيما بعد عندما حاول مغادرة هندوراس.
بتاريخ ١٥ مارس/آذار عام ٢٠١٦، قُتِل نيلسون جارسيا بالرصاص، وهو ناشط آخر من زملاء كاسيريس، وذلك خلال إخلاء أفراد من مجتمع لينكا بالقوة من الأرض. بعد مقتل غارسيا، علق كل من “فمو” مؤسسة تمويل هولندية، و”فنفند” مؤسسة استثمار، دعمهما المالي لمشروع أجوا زاركا، وتوقف المشروع ولكن لم يلغى.
حاول من وراء مقتل بيرتا كاسيريس، إيصال رسالة مفادها أنه إذا كان يمكن قتل الناشطة الأكثر شهرة في هندوراس بكل جرأة بسبب عملها، فيمكن حدوثه لأي شخص آخر. وصدمت الجريمة الكثيرين، لكن قاتليها لم ينجحوا في إيقاف رسالتها أو حركاتها. فبعد مقتلها، خرجت مظاهرات مليئة بالملصقات كُتِب عليها “بيرتا حية” – وهذا صحيح. فقد استمر كوبينه في عمله، وواصلت عائلتها ومؤيديها المطالبة بالعدالة في قضيتها. أما ابنتها، برثا، فلا تزال تكافح من أجل حقوق الشعوب الأصلية في هندوراس. فكما كتب كاسترو سوتو في رسالة مفتوحة بعد وفاتها، “رأيت بيرتا تموت بين ذراعي، ولكنني رأيت أيضا قلبها مزروع في كل نضال أخده كوبينه على عاتقه”.
أدى الاهتمام الدولي الكبير بقضية كاسيريس إلى محاكمات وإدانات. بتاريخ ٢٩ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٨، أدين سبعة رجال بتهمة قتل بيرتا، وبعد أكثر من عام، في شهر ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٩، حُكم عليهم بالسجن من ٣٠ إلى ٥٠ عامًا، ولكن لم تنفذ الأحكام بعد. تشكلت المجموعة من موظفين سابقين في شركة Desarrollos Energéticos S. A. (DESA) التي وقفت وراء مشروع أجوا زاركا، وعسكريين سابقين. أكد الحكم أن المسلحين المتهمين كانوا يعملون بأوامر وتنسيق ديفيد كاستيلو، أحد المديرين التنفيذيين لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، الذي اتضح أنه رئيس الشركة. في عام ٢٠٢٢، حكم على كاستيلو بالسجن لمدة ٢٢ عامًا لدوره في الاغتيال. وجه المدعون العامون في هندوراس التهم إليه باعتباره أحد أهم الروابط في سلسلة القيادة المعقدة التي تنظم وتتولى قيادة فرقة الاغتيال؛ لكن بالنسبة للعديد من المدافعين، فإن الحكم ليس نهاية القصة بأي حال من الأحوال، معتبرين أن التواطؤ في القتل يحصل على مستوى أعلى وأن المسؤولين عن القتل لا يزالون طلقاء بدون العقاب.
وأكدت عائلة كاسيريس أنهم يريدون أن تتم محاسبة العقول المدبرة للجريمة أيضًا. واتضح من التحقيق أن بيرتا عانت من محاولات تشهير وتجريم، بالإضافة إلى التهديدات المباشرة، بهدف مضايقتها للتخلي عن صراعها ضد مشاريع التنمية في أراضي لينكا وفي هندوراس. كما أكدت الإجراءات أن اغتيال بيرتا تم بمعرفة وموافقة المديرين التنفيذيين الآخرين لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام ٢٠١٩، بحث تقرير خاص من موقع ذا انترسبت في سجلات الاتصالات والرسائل القصيرة وواتس آب التي استخرجها مكتب المدعي العام في هندوراس أثناء التحقيقات. وبحسب ما نقله الموقع فقد “قام خبير مستقل بفحص أدلة سجل المكالمات، وأظهر أن القتلة تواصلوا عبر سلسلة مجزأة مع أعلى درجات قيادة الشركة التي كانت بيرتا تحتج على سدها”. وشمل ذلك أفراد من عائلة عطا الله زابلة ، وهي عائلة هندوراسية قوية لها “علاقات مع الحكومة والصناعة المالية الدولية”.
وفي فبراير/شباط ٢٠٢٠، قبل أسابيع من الذكرى الرابعة لمقتل بيرتا، أصدرت مجموعة من المراقبين الخبراء الدوليين تتألف من ١٧ منظمة دولية وإقليمية، تقريرًا يوثّق العديد من المخالفات في القضية.
يواصل موقع المجلس المدني للمنظمات الشعبية والسكان الأصليين احتساب “الأشهر بلا عدالة” في مقتل بيرتا – مع عبارة “نحن نفتقد العدالة”. وتؤكد مارسيا أغيلوز ، من CEJIL، أن التستر على العقل المدبر وراء الجريمة ، قد يكون له عواقب تتجاوز بكثير قضية بيرتا، في بلد يُعرف بأنه واحد من أكثر الدول فتكًا بالبيئة.
كما سلّط تقرير لجنة الخبراء في تقريره الضوء على أن “مقتل بيرتا أثر على الضحايا المتضررين بشكل مباشر وعلى المجتمع بأسره، ولهذا السبب، فإن البحث عن الحقيقة والعدالة أمران حاسمان.”
يظهر وجه بيرتا كاسيريس اليوم على ورقة ال٢٠٠ لمبيرا الورقية لتصبح بذلك أول امرأة في تاريخ هندوراس تظهر على ورقة نقدية. وبينما تعترف مجتمعات الشعوب الأصلية ودعاة حماية البيئة في هندوراس بهذا الإنجاز التاريخي وتحتفل به، فإنهم يؤكدون على ضرورة التصديق على الأحكام الصادرة بحق المتورطين في قتلها والسعي إلى تحقيق العدالة للمسؤولين ماديًا عن اغتيالها.
الرسم من فلوريان نيكول