"تظهر نسخة 2020 من التصنيف العالمي لحرية الصحافة أن العقد القادم سيكون حاسمًا بالنسبة لمستقبل وسائل الإعلام، حيث تُبرز جائحة فيروس كورونا -بقدر ما تؤجج- الأزمات المتعددة التي تهدد الحق في الوصول إلى معلومات نابعة من مصادر حرة ومستقلة ومتعددة وموثوقة".
الدروس المستفادة في نسخة 2020
في نسخة 2020، تحتفظ النرويج بالصدارة للعام الرابع على التوالي بينما تظل فنلندا في المرتبة الثانية. أما الدنمارك (3؛ +2) فقد ارتقت إلى المركز الثالث، نتيجة تراجع كل من السويد (4؛ -1) وهولندا (5؛ -1)، اللتين تشهدان عودة ظاهرة التنمر الإلكتروني. وعلى الطرف الآخر من الترتيب، لم تطرأ سوى تغييرات طفيفة، حيث حلت كوريا الشمالية (180؛ -1) محل تركمانستان في المركز الأخير، بينما لا تزال إريتريا (178) أسوأ ممثل للقارة الإفريقية في التصنيف العالمي.
وفي المقابل، استفادت ماليزيا (101) وجزر المالديف (79) من التناوب السياسي لتحققا أفضل ارتقاء على جدول تصنيف 2020، حيث تقدمتا بواقع 22 و19 مرتبة على التوالي، ثم يأتي بعدهما السودان (159)، الذي صعد 16 مرتبة منذ سقوط نظام عمر البشير. وفيما يتعلق بأكبر تراجعات نسخة 2020، تقهقرت هايتي بما لا يقل عن 21 مركزًا، لتقبع الآن في المرتبة 83، وذلك في خضم استهداف الصحفيين خلال الاحتجاجات العنيفة التي تشهدها البلاد منذ عامين. أما التراجعين المهولين الآخرين، فقد سُجلا في القارة الإفريقية، وبالضبط في كل من جزر القمر (75؛ -19) وبنين (113؛ -17)، حيث تزايدت انتهاكات حرية الصحافة.
أما التحسن الطفيف (-0.9٪) المسجل على مستوى المؤشر المعياري، الذي يقيّم الوضع العام على الصعيد العالمي، فإنه ليس سوى انعكاس لسياق عام متدهور: ذلك أن المؤشر العام لا يزال يسجل تراجعًا بنسبة 13٪ مقارنة بما كان عليه عند إحداثه في 2013. وإذا كانت النسبة المئوية لبلدان المنطقة البيضاء من التصنيف، التي تعكس “الوضع الجيد” لحرية الصحافة، قد ظلت دون تغيير (8٪)، فإن نسبة البلدان القابعة في المنطقة السوداء، التي تشير إلى “موقف حرج”، قد ازدادت بمقدار نقطتين لتصل الآن إلى 13٪.
التصنيف حسب المناطق
رغم السياسات القمعية التي تنتهجها بعض دول الاتحاد الأوروبي وبلدان البلقان، لا تزال أوروبا هي القارة الأكثر احترامًا لحرية الصحافة، متقدمة على منطقة الأمريكتين (الشمالية والجنوبية)، التي تأتي في المرتبة الثانية، وإن كانت بعض الدول ذات الوزن الثقيل في هذه المنطقة، وتحديدًا الولايات المتحدة والبرازيل، قد أصبحت من النماذج العدائية تجاه الصحافة والصحفيين. كما سُجلت تراجعات كبيرة في إفريقيا، التي تحتل المركز الثالث على صعيد المناطق، علمًا بأن هذا التقهقر يرجع بصفة خاصة إلى زيادة وتيرة الاعتقالات التعسفية طويلة المدى والهجمات عبر الإنترنت.
أما منطقة آسيا والمحيط الهادئ فهي سيدة التدهور الإقليمي هذا العام (+1.7٪)، علمًا بأن أستراليا (26؛ -5) أصبحت تتميز الآن بالتهديدات المتكررة لسرية المصادر والصحافة الاستقصائية، وهي التي كانت في السابق نموذجًا يُحتذى به في المنطقة. كما ساهم في تدهور التصنيف العام لهذه المنطقة كل من سنغافورة (158) وهونغ كونغ (80)، حيث فقد كلا البلدين 7 مراتب. فبينما تقهقرت الأولى إلى المنطقة السوداء على خلفية إصدار قانون سالب للحرية يتعلق بالمعلومات الخاطئة، فُسر تراجع الثانية بسبب معاملتها للصحفيين أثناء المظاهرات المؤيدة للديمقراطية.
وإذا كان ليس من المفاجئ أن تظل منطقة شرق أوروبا/آسيا الوسطى حبيسة المركز الأخير، عامًا بعد عام، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تبقى هي الأخطر على سلامة الصحفيين أثناء ممارسة مهنتهم، حيث شكل اعتقال مراسل منظمة “مراسلون بلا حدود” في الجزائر (146؛ -5) مؤخرًا مثالًا صارخًا لاستغلال سلطات بعض البلدان وباء كوفيد-19 لتصفية حساباتها مع الصحافة المستقلة.
أزمات تُعرض مستقبل الصحافة للخطر
أزمة جيوسياسية
بات مستقبل الصحافة معرضًا للخطر بسبب استفحال الأزمات المتعاقبة، والتي من أبرزها الأزمة الجيوسياسية التي تُذكيها الأنظمة الديكتاتورية أو الاستبدادية أو الشعبوية أو القادة الطغاة على رأس الحكومات، الذين يبذلون قصارى الجهود لقمع وسائل الإعلام وخنق المعلومات وفرض تصورهم الشخصي المتمثل في عالم خالٍ من التعددية والصحافة المستقلة. وفي هذا الصدد، تحافظ الأنظمة الاستبدادية على مراتبها الباعثة على العار. ذلك أن الصين، التي تحاول فرض “نظام عالمي جديد للإعلام والتواصل”، مستمرة في نموذجها القائم على التحكم المفرط في تدفق المعلومات، حيث توضح الأزمة الصحية المتعلقة بتفشي فيروس كورونا الآثار السلبية على العالم بأسره. هذا وتُعتبر المملكة العربية السعودية (170؛ +2) ومصر (166؛ -3) أكبر سجن في العالم بالنسبة للصحفيين، بعد الصين التي تتربع على الصدارة في هذا المضمار. من جانبها، توظف روسيا (149) وسائل متطورة على نحو متزايد في سبيل السيطرة على المعلومات المتداولة عبر الإنترنت، في حين أن الهند (142؛ -2) فرضت في كشمير أطول حظر تجوال إلكتروني في التاريخ. وفي مصر، تُستخدم مكافحة “الأخبار الزائفة” ذريعة لتبرير حجب الصفحات والمواقع الإلكترونية من جهة، وسحب بطاقات اعتماد الصحفيين من جهة أخرى.
أزمة تكنلوجية
أدى غياب لوائح تنظيمية متماشية مع العصر الرقمي وعولمة الاتصالات إلى فوضى إعلامية حقيقية، حيث دخلت الصحافة في منافسة مباشرة مع الدعاية ومجال الإعلانات والشائعات، علمًا بأن هذا الخلط المتزايد بين المحتوى التجاري والسياسي والتحريري يخلخل التوازنات على مستوى الضمانات الديمقراطية لحرية الرأي والتعبير. وفي مثل هذا السياق، يُصبح من الأسهل اعتماد قوانين بالغة الخطورة تمهد الطريق تدريجيًا إلى فرض قمع متزايد على الصحافة المستقلة والنقدية، وذلك تحت ذريعة الحد من انتشار الأخبار الكاذبة. فعلى غرار سنغافورة، سنت بنين قانونًا جديدًا يهدف في ظاهره إلى مكافحة التضليل والجرائم الإلكترونية ولكنه ينطوي في باطنه على أحكام يمكن استخدامها لتقييد حرية الإعلام. هذا وقد شكل الوباء أرضًا خصبة لانتشار الشائعات والمعلومات الكاذبة بسرعة انتشار الفيروس، حيث تفاقم استخدام الأساليب التضليلة على منصات التواصل الاجتماعي من قبل جيوش المتصيدين الإلكترونيين، سواء في روسيا أو الصين أو الهند أو الفلبين (136؛ -2) أو حتى في فيتنام (175).
أزمة ديمقراطية
تفاقمت بشكل ملحوظ الأزمة المسجلة في النسختين السابقتين من التصنيف العالمي لحرية الصحافة، والتي نتجت عن العداء -وأحياناً الكراهية- ضد الصحفيين. وهذا يؤدي إلى تزايد مهول في خطورة ووتيرة أعمال العنف التي تطال الفاعلين الإعلاميين، وهو ما يُخلف بدوره مستويات غير مسبوقة من الخوف في بعض البلدان، حيث يواصل سياسيون بارزون أو حاشيتهم التحريض على الكراهية ضد الصحفيين بشكل علني. وفي هذا الصدد، يواصل رئيسان منتخبان ديمقراطيًا -دونالد ترامب في الولايات المتحدة (45؛ +3) وجير بولسونارو في البرازيل (107؛ -2)- تشويه سمعة الصحافة والحض على الكراهية ضد الصحفيين في بلد كل منهما. ذلك أن “ديوان الكراهية” -الذي يعمل تحت إشراف مقربين من الرئيس البرازيلي– يشن هجمات واسعة النطاق على الصحفيين الذين يكشفون فضائح متعلقة بسياسة الحكومة. ومنذ بداية أزمة فيروس كورونا، كثف بولسونارو هجماته على وسائل الإعلام التي يعتبرها مسؤولة عن “حالة هستيريا” تهدف إلى إثارة الذعر في البلاد.
أزمة ثقة
يستمر تزايد وتيرة انعدام الثقة في وسائل الإعلام المشتبه في نشرها أخبارًا مشوبة بمعلومات غير موثوقة: فحسب النسخة الأخيرة من استقصاء إيديلمان تراست بارومتر، الذي يحلل مستوى ثقة الناس في المؤسسات على المستوى العالمي، أكد 57٪ من المستجوَبين أن وسائل الإعلام التي يعتبرونها مرجعهم الإخباري الرئيسي يمكن أن تنشر معلومات كاذبة. وبينما يزداد موقف الصحفيين ضعفًا في ظل أزمة الثقة هذه، فإنهم يُستهدفون بالأساس من قبل المواطنين الغاضبين خلال المظاهرات الشعبية الحاشدة التي تضاعفت وتيرتها في جميع أنحاء العالم، كما هو الحال في كل من العراق ولبنان (102؛ -1) وتشيلي (51؛ -5) وبوليفيا (114؛ -1) والإكوادور (98؛ -1)، بينما يجدون أنفسهم أيضًا ضحايا لعنف الشرطة في بعض الأحيان، كما هو الحال في فرنسا (32؛ -2)، على سبيل المثال. كما سُجلت ظاهرة أخرى بشكل واضح وبوتيرة متزايدة: ففي كل من إسبانيا (29) والنمسا (18؛ -2) وإيطاليا (41؛ +2) واليونان (65)، لا تتوانى بعض الجماعات القومية أو حركات اليمين المتطرف عن مهاجمة الصحفيين علانية، بينما لا يتردد عناصر طالبان في أفغانستان (122؛ -1) أو بعض الأصوليين البوذيين في بورما (139؛ -1) عن استخدام العنف لفرض تصورهم للعالم على وسائل الإعلام.
أزمة اقتصادية
في العديد من البلدان، يجد قطاع الإعلام نفسه منهكًا جراء التحول الرقمي الذي ما فتئ يشهده العالم. ففي ظل تراجع المبيعات وانهيار إيرادات الإعلانات وزيادة تكاليف الإنتاج والتوزيع الناجمة عن ارتفاع أسعار المواد الخام، اضطرت العديد من المؤسسات الإعلامية إلى تقليص أعداد موظفيها. فقد شهدت الولايات المتحدة الأميركية، مثلًا، تقلص أعداد العاملين في الصحافة إلى النصف على مدى السنوات العشر الماضية. وقد ترك هذا التوجه عواقب اجتماعية وخيمة وآثارًا خطيرة على الاستقلالية التحريرية في وسائل الإعلام بمختلف القارات، إذ من الطبيعي أن تكون الصحف التي تعيش وضعًا اقتصاديًا هشًا أقل قدرة على مقاومة الضغوط.
هذا وقد زادت الأزمة الاقتصادية أيضًا من تفاقم ظاهرة التمركز في أوساط وسائل الإعلام، لتتضاعف معها وتيرة تضارب المصالح التي تهدد التعددية الإعلامية واستقلالية الصحفيين. وفي هذا السياق، أقدم اتحاد الشركات المركزي الأوروبي –صاحب أكبر رأس مال في الجمهورية التشيكية (40)– على شراء العديد من وسائل الإعلام بمختلف بلدان أوروبا الشرقية، مما أثار الكثير من المخاوف في هذه الدول، حيث أصبحت هذه الشركة الاستثمارية العملاقة تسيطر على العديد من القنوات التلفزيونية المؤثرة في الرأي العام بالمنطقة قاطبة. كما بدأت تظهر بجلاء عواقب ظاهرة التمركز في الأرجنتين (64؛ -7) واليابان (66؛ +1)، حيث لا تزال وسائل الإعلام تابعة بنسبة كبيرة لما يُدعى تكتلات “كيرتسو” الضخمة التي تقوم فقط على منطق المصالح الاقتصادية، متجاهلة أهمية الاستقلالية التحريرية. وفي تايوان (43؛ -1) وجزر تونغا (50؛ -5)، على سبيل المثال، فإن المنطق التجاري الجاثم على وسائل الإعلام يساهم أيضًا في تأجيج الاستقطاب بشكل مفرط بقدر ما يُذكي بيئة قائمة على الإثارة والتهييج، مما يساهم في زيادة وتيرة التقليل من شأن الصحافة واستفحال أزمة الثقة في أوساط المواطنين.
المنهجية
يُنشر التصنيف العالمي لحرية الصحافة سنويًا منذ عام 2002 بمبادرة من منظمة “مراسلون بلا حدود”، حيث يعمل على قياس حالة حرية الصحافة في 180 بلدًا، انطلاقًا من منهجية تُقيّم مدى تعددية وسائل الإعلام واستقلاليتها وبيئة عمل الصحفيين ومستويات الرقابة الذاتية، فضلًا عما يحيط بعملية إنتاج الأخبار من آليات داعمة مثل الإطار القانوني ومستوى الشفافية وجودة البنية التحتية.
فالمسألة هنا ليست مسألة تقييم السياسات الحكومية للدول، إذ يتم احتساب المؤشرات العامة والإقليمية بناءً على النتائج المسجلة في مختلف البلدان، علمًا بأن هذه النتائج تقوم على أساس استبيان معياري بعشرين لغة مختلفة، حيث يشارك خبراء من جميع أنحاء العالم في التحليل النوعي. فكلما ارتفع المؤشر، كلما كان الوضع أسوأ. وبفضل انتشاره الواسع، أصبح التصنيف العالمي لحرية الصحافة يمثل أداة أساسية في عملية المناصرة والتأثير على نحو متزايد.