بالرغم من رحيل الأنظمة والحكومات المرة بعد المرة، فإنَّ الإرادة السياسية التي جمعت بين هذه الحكومات والأنظمة في رفض الحرية الفنية لم تزل باقية.
نشرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير ومنظمة فري ميوز دراسة مستفيضة حول الرقابة على التعبير الفني في مصر بعنوان “رقباء الإبداع”. وتكشف الدراسة عن أنَّ الحكومة المصرية في حاجة لإصلاح المنظومة التشريعية والمؤسسية المسؤولة عن الرقابة في الوقت الراهن.
فكما يقول عماد مبارك, المدير التنفيذي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، “على الحكومة المصرية أن تفي بالتزامتها التي تعهدت بها طواعية، بموجب المعاهدات و المواثيق الدولية الموقعة و الدستور المصري، و أن تتوقف عن فرض مزيد من القيود على حرية التعبير الفني، وأن تلتزم بضمان و حماية هذه الحرية، في إطار معايير حقوق الانسان”.
ووفقًا للدراسة، فبالرغم من رحيل الأنظمة والحكومات المرة بعد المرة، فإنَّ الإرادة السياسية التي جمعت بين هذه الحكومات والأنظمة في رفض الحرية الفنية لم تزل باقية – بزعم حماية النظام العام والأخلاق العامة ومصالح الدولة العليا – دونما اعتبار للتأثير الكارثي للرقابة على تطور الثقافة في مصر، سواء من حيث القيود على الحرية الفنية أو التداعيات على صناعة الثقافة.
ويقول أولي ريتوف، المدير التنفيذي لـمنظمة ‘فري ميوز’، إنَّ “مصر قد أنشأت متاهة بيروقراطية مكلِّفة وعديمة الشفافية من الآليات الرقابية، الأمر الذي يضر بالإبداع الفني إضرارًا بالغًا”.
وتوصي الدراسة الحكومة المصرية بوجوب إلغاء الرقابة المسبقة والسماح بحرية التنظيم للفنانين، وتشتمل على شهادات لفنانين يواجهون الممارسات الرقابية المعقدة في عملهم اليومي. وفي شهادته التي تضمنتها الدراسة، يقول المخرج السينمائي ‘أحمد عبد الله’ مفسِّرًا: “بصفة عامة، طريقة الحصول على التصاريح تعجيزية بصورة متعمدة، حتى إذا وافق الرقيب على الفيلم. فعلى سبيل المثال، تتقدم بالسيناريو وتحصل على الموافقة ويمر من الرقباء، فيؤشرون عليه: هذا الفيلم تمت الموافقة عليه من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، والرأي النهائي للرقيب بعد مشاهدة الفيلم. فهذه الموافقة ليس لها أي قيمة إلا بعد مشاهدة الفيلم. وبعد ذلك يضيفون ملاحظات كهذه:
1- عدم ذكر الشرطة أو الجيش، سواء أثناء الخدمة أو خارجها، في أي صيغة كانت.
2- تفادي مشاهد التدخين والشيشة والمخدرات.
3- تجنب تناول رجال الدين بأي صيغة كانت”.
وقد قضى أحمد عبد الله عددًا لا حصر له من الساعات في نقاش مع الرقباء ومع السلطات المعنية: “في نهاية المطاف، إذا ما اتبعت هذه الملاحظات، لا يمكنك أن تعرض حتى مشهد مطاردة بين شرطي ولص، ولو كان ذلك في مشهد كلاسيكي لا علاقة له بالسياسة. لا يمكنك. كما لا يمكنك أن تُظهر البطل في مشهد وهو يصلي صلاة الجمعة، على سبيل المثال. فلا يمكن أن تضع أيًا من هذه المشاهد في فيلم إذا اتبعت تعليمات الرقباء. فمن الممكن أن يكون في فيلمك ضابطًا أو مسجدًا أو كنيسة، ويكون السيناريو المحتوي على هذه الأشياء قد نال الموافقة، إلا أنَّ هذه الملاحظات تحظر ذلك واقعيًا. والفكرة أنَّهم يحصنون أنفسهم إذا ما جرى شيء ما في المستقبل، فيمكنهم عندها التذرع بأنَّهم قد أعطوك هذه الملاحظات من قبل. إنَّهم موظفون حكوميون يحمون أنفسهم وليسوا مهتمين بالعمل الإبداعي ولا بكيفية إخراج الأفلام”.
السياسة والدين والجنس – إن هذة الموضوعات غير مرغوب فيها
”رقباء الإبداع“ هي الدراسة الأولى من نوعها حول القيود العديدة على الإبداع في مصر، الرسمي منها أو المفروض اجتماعيًا تحت وطأة الثقافة السائدة، ولا سيما عندما تتناول أشكال التعبير الفني أحد الموضوعات الثلاثة التي طالما أثارت الجدل على مر التاريخ: السياسة والدين والجنس. وتستكشف هذه الدراسة القيود التشريعية والمؤسسية الأساسية على حرية التعبير الفني في مصر، كما تعرض بالتحليل للهيكل القانوني المنظِّم للرقابة على الأعمال الفنية والمعايير التي تستخدمها الهيئات الرقابية المختلفة في سياق عملها. وتطرح الدراسة عددًا من التوصيات لإعادة هيكلة المنظومة الرقابية واستبدالها بنظام آخر يقوم على معايير مختلفة، مثل تصنيف الأعمال الفنية حسب ملاءمتها للفئات العمرية، بما لا يتعدى على محتوى العمل أو يفرض وجهة نظر معينة على صانعه. وبالاستعانة بالأمثلة ودراسات الحالة، تبحث الدراسة عددًا من الحالات التي تعرَّض فيها الفنانون للرقابة. وفيما استسلم بعض الفنانين لرغبات الرقيب، تصدَّى لها آخرون آخذين الأمر إلى ساحات المحاكم. وعلاوة على ذلك، فإنَّ هذه الدراسة تستهدف تشجيع السلطات على اتخاذ خطوات ايجابية نحو تحرير الفنون من جميع مظاهر الرقابة الأبوية.
تحدي القيم
مرت مصر بفترة عصيبة للغاية منذ الثورة التي أطاحت بنظام ‘مبارك’. وفيما تفجَّرت صور التعبير الفني، وتعاقبت أنظمة الحكم جيئة وذهابًا، فإنَّ التشريعات المنظِّمة لعمل الهيئات الرقابية وممارساتها لم تتغير. وتستكشف دراسة ”رقباء الإبداع“ الدور المهم الذي لعبه الفن بكل أشكاله في التصدي للقيم والممارسات المعادية للحرية الفردية وحقوق الإنسان، والتي طالما عملت على إضفاء صبغة قانونية وشرعية على القمع بجميع صوره. وفي بعض الأحيان، يكون وراء هذا القمع دوافع سياسية صريحة، فيُستخدم للدفاع عن السلطة الحاكمة ضد أي انتقاد يهدف لتغييرها أو الكشف عن سوء استغلالها للسلطة. وفي أحيان أخرى، يكون القمع تجسيدًا لرفض العلاقات الجنسية التي تحيد عن الصورة المقبولة اجتماعيًا لرجل وامرأة تجمعهما مؤسسة الأسرة. ووفقًا لقوانين الرقابة ولوائحها، فإنَّ أي عمل فني يصور أنماطًا أخرى من العلاقات، كالعلاقات المثلية، يهدد القيم الدينية والاجتماعية للشعب المصري، ومن ثم لا يُسمح بعرضه علنًا.
والدين خط أحمر آخر لا يمكن للأعمال الفنية أن تتخطاه، طبقًا لقوانين الرقابة ولوائحها. والقوانين المصرية، بصفة عامة، لا تضمن حرية التعبير الديني، ولا سيما إذا كان العمل ينطوي على انتقاد مباشر أو غير مباشر للأديان السماوية (الإسلام والمسيحية واليهودية)، أو يثير أسئلة حساسة حول القضايا الدينية التي تحظى بقبول واسع. ولهذا تداعيات على التعبير الفني، إذ يضع عقبات ضخمة أمام الأعمال الفنية التي تطرح قضايا تتعلق بحرية الاعتقاد، أو تنتقد الأديان السماوية، أو تروِّج لدين لا تعترف به الدولة والمجتمع.
وتبرر السلطات المصرية الرقابة على الأعمال الفنية التي تتعرض لأي من تلك الموضوعات الثلاث بالحاجة إلى الحفاظ على النظام العام والأخلاق العامة ومصالح الدولة العليا. والدراسة القانونية المشار إليها هي الخلفية التي تتقدم على أساسها ‘مؤسسة حرية الفكر والتعبير’ ومنظمة ‘فري ميوز’ بمذكرتهما إلى استعراض الأمم المتحدة الدوري الشامل في مارس 2014. وسيُجرى استعراض الحكومة المصرية في جنيف في أكتوبر 2014.