إن حالة حرية التعبير في مصر أصبحت يائسة، فمن جهة تحارب السلطة الحاكمة في مصر الشباب بالقتل والسجن والاختفاء القسري وتغلق عليهم كافة المنافذ وتحاصر أرائهم وأفكارهم وخيالهم. ومن جهة أخرى هناك قيود يفرضها المجتمع والجماعات تحت مزاعم اﻷخلاق والعادات والتقاليد والدين والإنتماء الوطني.
“أكتب هذه المقال لا أملاً في التغيير، ولا لدفعك عزيزي القارئ لأى فعل أو موقف، لأنه في ظل سحابة اليأس التي تخيم علينا. لا تنبع الأفعال من الرغبة في التغيير، بل من طاقة السخرية واليأس. هذا بلد يندفع سريعاً نحو الارتطام بقاع حفرة عميقة في زريبة منسية.”
من مقال أحمد ناجي بعنوان هاني شاكر نقيب الأحزان في مهمة لقتل المتعة
الخوف واليأس مصاحبان لنا كالظل، نفقد حريتنا في البحث الحر عن اﻷفكار في ظل نظام ومجتمع يكرهان الاختلاف ويعملان بأقصى طاقة ممكنة لحثنا على ادانة ورفض التفرد و الإبداع.
كمدافعين عن الحريات، تزداد مشاعرنا الغاضبة يوماً بعد يوم، ونتعرض لكل صنوف التشويه والتزييف والحصار، وتزداد الانتهاكات وحشية وشراسة من سلطة اختارت الحل اﻷمني للتصدي للأفكار والخيال والسخرية والتظاهر. حيث أصبح الإبداع والتفكير والاختلاف جريمة أخطر على الدولة والمجتمع من القتل خارج إطار القانون والتعذيب والفساد.
في وطني، لا تخلو صفحات الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي من صورة لسجين أو شهيد، أو حديث عن التعذيب أو الاختفاء القسري، أو أخبار عن أحكام بالإعدام أو قتل خارج إطار القانون، أو منشور حول أحكام ضد الكُتّاب والصحفيين. فاليوم، أصبح الجميع في مصر في خطر بحجة مكافحة الإرهاب وتوفير اﻷمن والاستقرار. نحن نعيش في ظل عدالة مفقودة ومنحازة تساعد على استمرار وضمان إفلات المسؤولين من العقاب
لقد تعلمت، خلال عملي في مجال الدفاع عن حرية التعبير لما يزيد عن عشر سنوات، أن الدفاع عن حرية الإنسان في التعبير لا يرتبط بأي شكل من اﻷشكال بتقييم القرارات واﻵراء والاختيارات الشخصية مثل الانتماء السياسي والعرقي والديني. وتعلمت أن المجتمع الذي يريد بالفعل حماية حرية التعبير عليه أن يضع القواعد التي تميل بشكل متعمد لصالح هذه الحرية من أجل مكافحة ومناهضة الميل الكامن لدى الحكومة لفرض الرقابة والسيطرة والسرية على الكثير من القضايا.
ولكن اكثر ما أثار اهتمامي خلال عملي في هذا المجال هو النظرية القائلة بأن الدفاع عن حرية التعبير يعتبر ذا قيمة خاصة ليس ﻷسباب لها علاقة بالبحث الجماعي عن الحقيقة أو بسبب دعمه للمصلحة العامة، ولكن ببساطة لأن حرية التعبير هي حق بحد ذاتها، فمن الضروري للحفاظ على كرامة الإنسان أن يتمكن كل فرد من الحديث عما يجول بفكره دون قيود أو شروط. فسواء كان ينظر لحديثه بأنه ذو قيمة أو لا، مهذباً أو بذيئاً، مقبولاً أو منفراً، يجب أن يكون المجتمع منحازاً لحقه في الكلام. سواء كنت تتفق أو تختلف معه، يرتبط حق الفرد في حرية التعبير بشكل جوهري بتحقيق كافة حقوق الإنسان الاخرى، ولذلك لا بد من حمايته.
أؤمن بالحرية المطلقة للكلام دون قيود على المحتوى أو التعرض لأي شكل من أشكال المضايقة. القيد الوحيد برأيي أن يتضمن الكلام تحريضاً على الكراهية والعنف والعنصرية، وأن يترتب عليه سلوك عنيف ضد مجموعة من البشر. هنا يخرج الكلام من دائرة الحماية إلى دائرة التجريم.
أما في مصر، فإن حالة حرية التعبير تبدو يائسة، فمن جهة تحارب السلطة الحاكمة في مصر الشباب بالقتل والسجن والاختفاء القسري وتغلق عليهم كافة المنافذ وتحاصر أرائهم وأفكارهم وخيالهم. ومن جهة أخرى هناك قيود يفرضها المجتمع والجماعات تحت مزاعم اﻷخلاق والعادات والتقاليد والدين والإنتماء الوطني.
هناك العشرات من اﻷمثلة حول تراجع حرية التعبير في مصر، وعن السجون التي تفتح أبوابها لاستقبال كل من امتلك الجرأة لكسر تابوهات المجتمع والسلطة، سأذكر في هذا المقال بعض الأمثلة.
السخرية الممنوعة
في أكتوبر عام 2015 وفي الأيام الأخيرة لخدمته العسكرية، أصدرت المحكمة العسكرية حكماً على الشاب عمرو نوهان بالسجن لمدة ثلاث سنوات، بسبب نشره صورة ساخرة على صفحته على موقع الفيسبوك يظهر فيها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بأذني الشخصية الكرتونية الشهيرة ميكي ماوس.
إن السخرية دائما أكثر ما يثير فزع سلطة تقليدية تعتقد أن استقرار النظام وهيبته يتحققان من خلال فرض خطوط حمراء حول رأس السلطة وحول مؤسساتها العسكرية والأمنية. في هذا الإطار تبدو السخرية وكأنها اعتداءً مباشراً، وليس غريبا ان تؤدي إلى المحاكمة والإدانة والحبس.
وطن بلا تعذيب
تحديث: بعد عامين من الحبس الاحتياطي، تم الإفراج عن محمود محمد بكفالة ألف جنيه في تاريخ 22 مارس 2016.
في يناير 2014، شارك الطالب محمود محمد حسين (19 عاما) في الذكرى الثالثة لثورة الخامس والعشرين من يناير. مرتديًا “تيشيرت” طبع عليه جملة “وطن بلا تعذيب”، ووشاح كتب عليه “ثورة 25 يناير”، وأثناء عودته إلى منزله، ألقي عليه القبض عند مروره من كمين المرج.
حلم محمود في وطن بلا تعذيب أصبح كابوساً، بدأت ملامح الطفل تختفي وتتوارى داخل أسوار السجن، وظهر محمود في صورة له بعد أكثر من 700 يوم بملامح شاب. لقد نظرت إلى تلك الملامح قائلاً: “نعم، لقد نجح الخوف في التسرب إلينا بالتدريج. نعم، لقد تم خداعنا كالعادة. فنحن نقف أمام صخرة تغيب بداخلها الإنسانية، وفي قلبها الاستبداد والقمع. إن الغضب واليأس والخوف ينهشون كالسوس في أجسادنا المهترئة”.
الصبي كبر وبَقى شاب. خلو بالكم من معنى نظرة العيون لما تكبر في الضلمة. سنتين حبس احتياطي في بلد القانون #الحرية pic.twitter.com/pr3Ozwbj7k
— liliane daoud ليليان (@liliandaoud) January 7, 2016
إضغط على الرابط هنا لقراءة أخر التحديثات في قضية محمد محمود.
ازدراء الأديان
بتاريخ 25 فبراير 2016، أصدرت محكمة جنح أحداث بني مزار حكماً بحبس ثلاثة طلاب أقباط بمدة خمس سنوات، ووضع زميلهم المتهم الرابع بمؤسسة عقابية لصغر سنه، وذلك على خلفية تصوير مقطع تمثيلي ساخر يتهكم على بعض ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام (داعش).
وكانت قرية الناصرية بمركز بني مزار شمال محافظة المنيا قد شهدت اعتداءات طائفية على ممتلكات الأقباط ومحاولة لاقتحام كنيسة القرية في اعقاب اتهام المدرس المسيحي والطلاب الاربعة بالمرحلة الثانوية بازدراء الإسلام وإهانة المقدسات الإسلامية وإثارة الفتنة الطائفية، وذلك بسبب أداء مقطع تمثيلي مدته نصف دقيقة، تهكموا فيه على ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش” بالصلاة و ذبح الضحايا في نفس الوقت.
خدش الحياء العام و محاكمة الخيال
على خلفية بلاغ مقدم من مواطن قال فيه أنه أصيب “باضطراب في ضربات القلب وإعياء شديد وانخفاض حاد في الضغط وأن حياءه خُدش” بعد قراءة فصل من رواية “استخدام الحياة”، بدأت النيابة العامة بالتحقيق مع الصحفي والروائي أحمد ناجي، ووجدت «أنه بسبب نشر المتهم مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكًا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعُهر خروجًا على عاطفة الحياء وعن المثل العامة المصطلح عليها فولدت سفاحًا مشاهد صورت اجتماع الجنسين جهرة».
ذلك جزء من قرار إحالة الصحفي والروائي أحمد ناجي إلى المحاكمة بسبب نشر فصل من روايته “استخدام الحياة” في أحد أعداد جريدة أخبار الأدب والتي تصدر عن مؤسسة أخبار اليوم في أغسطس 2014، هكذا ترى النيابة العامة الفن والإبداع والخيال، وتصف جزءا من الرواية على أنه ينتهك حرمة اﻵداب وحسن اﻷخلاق. تعتمد النيابة العامة التي لا تعلم الفرق بين المقال والرواية على العادات والتقاليد والدين في تقييم العمل اﻹبداعي، وتدافع عن المجتمع بمنحه المزيد من الظلام بدلا من الدفاع عن حرية الفرد في التعبير واﻹبداع. ثم يندهش البعض بعد ذلك من انتشار اﻷفكار المتطرفة!
فالنيابة العامة ترى “إنه لا يجوز للقضاء التراخي في تثبيت الفضيلة وفي تطبيق القانون وحتى لا تبقى اﻵداب العامة صريعة الشهوات التي تغتال الطهر في النفس والعدل بين اﻷمم”.
ورغم حصول ناجي على حكم البراءة في أول محاكمة، إلا أن النيابة العامة رفضت هذا الحكم الذي يعتبر انتصار لحرية التعبير، و قامت باستئناف الحكم أمام محكمة الدرجة الثانية التي أصدرت حكماً بالسجن لمدة عامين على ناجي بتهمة خدش الحياء العام.
وجاء في حيثيات الحكم على ناجي أن “إرادة الروائي أحمد ناجى اتجهت إلى نشر فصل الرواية التي تحمل تلك العبارات توقظ الغرائز وتثير الفتن قاصدا غمس أبناء هذا المجتمع في بيئات مشحونة بالانحلال الأخلاقي بغية إصابتهم بالرذائل الخلقية واستمراء الشهوات المرتبطة برذائل الاخلاق”.
لا معنى للحديث عن الدستور الذي انتقده رئيس الجمهورية عندما قال في تصريحات له بأنه تم صياغة مواده “بالنوايا الحسنة”. فالدول لا تبنيها النوايا الحسنة، ولا القوانين التي أسست للاستبداد ومازالت مستمرة لحصار كل ما هو مختلف ومعارض.
ولا أمل في قضاء اختار أن يكون يد للسلطة في تصفية الخصوم، ودرعا لحماية المجرمين من المحاسبة والمساءلة. ويرتدي العباءة إن تطلب اﻷمر ذلك ليدافع عن تابوهات المجتمع من عادات وتقاليد وأخلاق. فالحق في الاختيار الذي يمثل جوهر الحرية منبوذ من كل من المجتمع والقضاء والسلطة.
معركة طويلة وصعبة تظل قائمة وتحتاج إلى نفس طويل، لا نملك فيها سوى إبداعنا وسخريتنا وخيالنا من واقع بائس. سنظل على موقفنا الرافض لتجريم الكلام، ومحاصرته داخل المحاكم بدلا من دعمه وإتاحته في سوق واسع تصطدم فيها اﻷفكار وتتناحر لتبقى، احتراما لحق الجمهور في أن يختار من بينها ما يراه اﻷنسب أو الأصوب.
تبقى أهمية حرية التعبير بالنسبة لي في الدفاع عن اﻵراء الصادمة التي لا تلقى قبولا مجتمعياً، وفي الدفاع عن حق اﻷقليات المهمشة التي لا تستطيع التعبير عن نفسها من أجل تمكينها من الحديث العلني عن آرائها وأفكارها دون خوف من بطش أغلبية قد تزعجها هذه الآراء والأفكار.
الصورة المعنية
الصحفي والروائي أحمد ناجيFacebook
في وطني، لا تخلو صفحات الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي من صورة لسجين أو شهيد، أو حديث عن التعذيب أو الاختفاء القسري، أو أخبار عن أحكام بالإعدام أو قتل خارج إطار القانون، أو منشور حول أحكام ضد الكُتّاب والصحفيين.
عماد مبارك هو مؤسس مؤسسة حرية الفكر والتعبير ولديه ما يزيد عن عشر سنوات خبرة في مجال الدفاع عن حرية التعبير في مصر.