قصة ثلاث حملات تضامن شجاعة لمقاومة قمع حرية التعبير في تركيا.
في حين أنه لم يكن النقد يوماً من السهل في تركيا، إلا أن ما هو ملحوظ ومقلق في السنوات الأخيرة – خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في أيلول 2016 – هو الأعداد الهائلة من الناس العالقين المحصورين في حملة القمع التي شنتها الحكومة. فمع الاعتقالات الجماعية والطرد وإغلاق وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية والفنية، فإنه من الصعب تصور عدم تأثر أي شخص. بالإضافة إلى هذا المزيج، يجري كل هذا في ظل الإصلاحات الدستورية المقترحة التي يمكن أن تزيد من تركيز السلطة على الرئيس.
لكن على الرغم من كل ذلك، لا تزال قوة المجتمع المدني في تركيا مصدرا للتفاؤل والإلهام. هنالك مجموعات عديدة تتبع تقاليد تركيا الطويلة في العصيان المدني من خلال الوقوف إلى جانب الذين استهدفوا من قبل القوانين الجائرة، وإعادة حديث ما يسمى “جرائم” وتقديم أنفسهم للملاحقة القضائية. عندما يفعلون ذلك، فإنهم يسلطون الضوء على الظلم وسخافات قوانين تركيا التي لا تعد ولا تحصى والتي تخنق حرية التعبير.
نشارككم في هذا المقال بقصص ثلاث حملات هنا: الظلم الذين يردون عليه، وأشكال مقاومتهم، والثمن الذي يدفعونه بسبب أعمالهم التضامنية.
أوزغور غونديم: حملة رؤساء التحرير المشاركين
أكثر من 30 شخصاً تمت محاكمتهم أو يواجهون الملاحقة القضائية لأنهم كانوا “محررين” مؤقتين للصحيفة الكردية المحاصرة أوزغور غونديم (ترجمتها: بدون أجندة). ووجهت إليهم تهمة نشر دعاية إرهابية.
وكان المتهمون قد شاركوا في تحرك تضامني للاحتجاج على قمع الصحيفة. إن صحيفة أوزغور غونديم التي كانت لأكثر من عقدين من الزمن واحدة من عدد قليل من الصحف التي تغطي أخبارا حول النزاع الكردي لعدد كبير من القراء الأكراد، قد عانت من الحظر والاعتقالات وغيرها من الأعمال الانتقامية. أنشئت الصحيفة في عام 1992، وتم حظرها منذ عامين بتهمة كونها مجرد بوق دعائي لحزب العمال الكردستاني. لقد حاربت بأشكال مختلفة على مدى السنوات الـ 16. وعند إغلاقها في كل مرة، كانت تظهر من جديد تحت عنوان جديد.
في عام 2011، عندما بدت تغطية القضايا الكردية بالانخفاض، وأعيد فتح الصحيفة تحت اسمها الأصلي. ولكن يتواصل الآن قمع واعتقال موظفيها. فمنذ شهر آب عام 2016، كان هناك ما يقارب 80 اجراءً قانونياً ضدها.
أطلقت أوزغور غونديم حملة ‘رؤساء التحرير المشاركين”بتاريخ 3 أيار عام 2016، في اليوم العالمي لحرية الصحافة. ففي ظل محاكمة كل من رئيس الصحيفة المشارك ورئيس تحريرها اللذان يواجهان السجن بتهم مكافحة الإرهاب، كانت خطة الحملة أن يعمل الصحفيون والكتاب والأكاديميون والنشطاء “كرؤساء تحرير” للصحفية بشكل مؤقت.
في غضون شهر، تم إخطار ستة مشاركين كرؤساء تحرير بأنهم قيد التحقيق بتهمة “الدعاية الإرهابية والتحريض”. وأدى هذا القمع إلى زيادة المشاركة في الحملة التي استمرت في اكتساب زخماً أكبر، وجذب المزيد من المؤيدين والاهتمام والدعم الدولي.
مع نهاية الحملة بتاريخ 7 آب، شارك نحو 50 فردا كرؤساء تحرير، وتم تقديم 37 منهم للمحاكمة. وقضى ثلاثة منهم أوقاتاً في السجن: حيث تم سجن كل من الصحفي والناشط في مجال حرية التعبير إيرول اونديراوجلو، والصحفي أحمد نسين، والمدافع عن حقوق الإنسان سبيم كورور فينساني، لمدة 10 أيام قبل أن يطلق سراحهم للمحاكمته.
وبتاريخ 16 آب، تم اغلاق أوزغور غونديم قسرا في أعقاب محاولة الانقلاب بتاريخ 15 أيلول. حيث داهمت الشرطة مكاتبها، واعتقلت اثنين وعشرين من موظفيها بتهمة تعطيل العمل، وتم اتهام اثنين من محرريها بموجب قانون مكافحة الإرهاب. واعتُقل الروائي الشهير دوليا أسلي أردوغان والأكاديمي الذي يحظى باحترام نيسيمي الباي، حيث كلاهما مستشارين للصحيفة. وعلى الرغم من الضجة الدولية حول إلقاء القبض عليهم، إلا أنهم قضوا 136 يوما في السجن قبل أن يطلق سراحهما في كانون الأول من عام 2016. ولا تزال محاكماتهم مستمرة.
وقد عادت الصحيفة التي لم يتم ردعها الى الظهور في قالب اخر تحت اسم ديمقراسي (ديمقراطي).
أكاديميون من أجل السلام: لن نكون طرفا في هذه الجريمة!
قبل خمسة أشهر من حملة أوزغور غونديم، كانت الأعمال الانتقامية ضد أعضاء أكاديميون من أجل السلام جارية بالفعل. حيث بدأت المبادرة في تشرين الثاني عام 2012 مع عريضة لدعم السجناء الذين نظموا إضرابا عن الطعام من أجل الدعوة لحقوق اللغة الكردية وإطلاق سراح زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان. وتطورت لاحقا إلى مركز للبحث العلمي لمعالجة ندرة المعرفة حول الصراع الكردي ومفاوضات السلام.
في أيلول عام 2015، انهار وقف إطلاق النار الذي استمر لمدة عامين بين الجيش التركي والميليشيات الكردية. ووقع المئات من القتلى، بينهم مدنيون، كما فر العديد من منازلهم. دفعت هذه الأحداث أكاديميون من أجل السلام لتنظيم عريضة أخرى، تحت عنوان “لن نكون طرفا في هذه الجريمة”. وجمعوا أكثر من 1400 توقيعاً، بما في ذلك 355 عالماً من الخارج.
وعقد الأكاديميون مؤتمراً صحفياً بتاريخ 11 كانون الثاني عام 2016، وقالوا فيه: “نحن نطلب من الدولة أن تضع حدا للعنف المرتكب ضد المواطنين الآن. ونعلن نحن الأكاديميون والباحثون في هذا البلد أننا لن نكون طرفا في هذه الجريمة”.
وكان رد الحكومة سريعا وغير متوقعاً من حيث القسوة؛ ومبشراً بتدابير الطوارئ في المستقبل. حيث تم اعتقال سبعة وعشرين شخصاً من الموقعين (تم الإفراج عنهم في وقت لاحق) بتهمة الدعاية لمنظمة إرهابية وإهانة للدولة. وبدأت التحقيقات بحق أكثر من ألف شخص آخرين عبر 90 جامعة.
حفّز الرد موجة من التضامن والمزيد من العرائض، بما فيها عريضة وقعها 433 من السينمائيين جاء فيها: “نحن بجانب الفكر الحر والفن. لا استثناءات، لا تحفظات! لن نكون طرفا في هذه الجريمة! نحن نقف مع مبادرة أكاديميون من أجل السلام “.
لا يشير الوضع بعد مرور عام لأي علامات من التحسن. ففي أواخر كانون الأول من عام 2016، تم إخبار السينمائيين أن تحقيقا رسميا جارٍ ضدهم، مما يزيد من تورم الأعداد الهائلة للأشخاص الذين يواجهون المحاكمة بسبب “جرائم” لا أساس لها في القانون الدولي.
تعرض أربعة أساتذة للحبس الانفرادي لمدة شهر، قبل أن يطلق سراحهم في نهاية المطاف للمحاكمة. وتعرض حوالي 500 من الموقعين للتحقيقات التأديبية. وطُرِد أكثر من 180 شخصاً. ورفض آخرون تمويل البحوث أو المشاركة في المؤتمرات. واختار بعض مغادرة البلاد.
شبكة الإثنين الأسود لحرية التعبير – ‘من يريد المشاركة في هذه الجريمة؟
أحد أطول حملات حرية التعبير الجارية في البلاد – أصبحت الآن منظمة – هي مبادرة التعبير الحر – تركيا. انطلقت في عام 1995 بعد محاكمة احد الكتاب البارزين في تركيا وهو ياشار كمال، الذي اتهم بتشجيع الإرهاب بسبب مقال أدان فيه انتهاكات حقوق الإنسان ضد الأكراد. ردا على ذلك، نشر الموسيقي سانار يورداتابان مجموعة من المواد المحظورة، بما فيها لكمال، ودعا الكتّاب الأخرين لإضافة أسمائهم كـ’ناشرين مشاركين”.
استجاب بشكل مذهل 1080 كاتباً. وكان العديد منهم من الأفراد المعروفين داخل تركيا وخارجها، بما فيهم آرثر ميلر، هارولد بنتر، سوزان سونتاغ، أشعيا برلين، بول أوستر. وتم تحويل بعض الموقعين إلى محكمة أمن الدولة مع الإشارة إلى أنهم “شاركوا في الجريمة” وتم الطلب بملاحقتهم قضائياً. وأحضر 98 من الكتاب الأتراك إلى المحاكمة في العام التالي.
بدون أن تردعها – وبالهام من الواقع – هذه التجربة، ثابرت المبادرة على مر السنين، وشكلت تحديا لقمع حرية التعبير عن طريق إعادة نشر النصوص المحظورة، وكانت تدعو في كل مرة “من يريد المشاركة في هذه الجريمة “بتسجيل أسماءهم في المنشورات وعرض أنفسهم للملاحقة القضائية.
قل نشاط مبادرة “شاركوا في هذه الجريمة” لفترة، ولكن تدهورت الأوضاع في شهر شباط من عام 2016 إلى درجة قامت فيها المبادرة بتأسيس شبكة حرية التعبير والتزمت بتنفيذ أنشطة العصيان المدني.
دعت المبادرة الشعب إلى اختيار أسباب للعمل. إن التركيز على إجراءات العصيان المدني – في الواقع تنفيذ نفس “الجريمة” ثم استنكار تقديمهم للمحاكمة – من خلال وقفات احتجاجية أمام قاعة المحكمة والمناقشات والمقالات وتحركات “الاثنين الأسود” التي تعقد أول يوم اثنين من كل شهر.
شهد أول يوم إثنين أسود، بتاريخ 2 أيارعام 2016، التجمعات خارج المحاكم في انقرة واسطنبول وازمير، من أجل دعم الكاتب أو الصحفي الذي يتم تقديمه للمحاكمة. وتم تنظيم يوم آخر بتاريخ 11 تموز لدعم المتهمين في محاكمات أوزغور غونديم وأكاديميون من أجل السلام.
إن إعلان حالة الطوارئ بتاريخ 15 تموز يعني أنه كان على المبادرة وقف الأنشطة الشهرية – ولكن ليس لفترة طويلة. فبحلول تشرين الثاني، عادت المبادرة بتنظيم فعاليتها الرابعة من “الاثنين الأسود”، عندما ذهب أعضاء شبكة حرية التعبير إلى مكاتب المعارضة الكردية الموالية لحزب الشعب الديمقراطي الذي كان رئيسه المشارك في المحكمة، وإلى مكاتب صحيفة جمهوريت واحتجاز العاملين فيها.
كان يورداتابان من بين أول من تمت ادانتهم لمشاركته في رئاسة تحرير أوزغور غونديم بتاريخ 18 حزيران 2016. وبتاريخ 13 كانون الثاني عام 2017، حكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة 15 شهرا، ليتم تفعيل الحكم إذا قررت المحكمة أنه أعاد ارتكاب جريمته. وقد تبع ذلك قرارات مماثلة للمحررين المشاركين الآخرين.
بالنسبة لتحرك 11 تموز، سوف يمثل يورداتابان وزملائه في المبادرة زينب سيرنكايا ودوغان اوزكان أمام المحاكمة في نيسان 2017 بسبب “ارتكاب نفس الجريمة” بمشاركتهم في الوقفة الاحتجاجية أمام المحكمة أثناء محاكمة إيرول أونديراوغلو.
لا تزال فعاليات الإثنين الأسود مستمرة.
الخاتمة
إن وأوزغور غونديم، ويوم الإثنين الأسود، وحملات أكاديميون من أجل السلام هي أمثلة كلاسيكية من العصيان المدني، التي تهدف إلى تحدي وكشف الظلم عن طريق كسر القوانين التي تم استخدامها بطريقة خاطئة لإسكات منتقدي الحكومة.
يضع الذين يشاركون بذلك حريتهم في خطر. ويمارسون ما قال عنه مارتن لوثر كينغ، في رسالته عام 1963 من سجن برمنغهام “مسؤولية أخلاقية لعصيان القوانين الجائرة”.
هذه الإجراءات لها تأثير، حتى أبعد من الدور الحاسم لتوفير التضامن والدعم للمعتقلين أو الذين يواجهون المحاكمة. حيث أدت إلى تغطية واسعة في وسائل الإعلام، سواء في تركيا وخارجها، وإشراك المنظمات الدولية في الاحتجاجات، وحضور جلسات المحاكمة وزيارة السجون. حيث قال أسلي أردوغان للبي بي سي في كانون الثاني بأنه كان هناك الكثير من الضغوط الدولية. إذا لم يكن هناك مثل هذه الضغوط، لوضعونا في السجن لسنوات.
يتحدى العصيان المدني النظام القضائي التركي إضافة إلى العبء الضخم في ظل حالة الطوارئ. حيث تبدي المحاكم ممانعة لتمرير أثقل الأحكام. كما قال يورداتابان لآيفكس: “إن الدولة التركية لا تريد عناء سجن المثقفين”.
في حين أن عدد الأشخاص في السجن لا يزال مذهلاً – من بينهم أكثر من 150 صحفياً في وقت كتابة المقال – وأن حالة الطوارئ قد تمدد مرة أخرى، إلا أن قوة المعارضة والإبداع داخل تركيا التي ارتفعت لمواجهة هذا التحدي هي قوية ومصدر للأمل والتفاؤل.
لم تتوقف كتاباتنا وكاميراتنا، ولا حتى للحظة واحدة، في جهودنا الرامية إلى فضح ومعارضة الغش والكذب والسرقة والرقابة والعنصرية والطائفية.محمد علي جلبي، صحفي أوزغور غونديم
نحن بجانب الفكر الحر والفن. لا استثناءات، لا تحفظات!
كانت جميع هذه المظاهرات من أجل الدفاع عما دمرته حالة الطوارئ في وقت لاحق: تعددية وسائل الإعلام واحترام الانتقادات. نحن في عملية توحيد المعنويات .والخياراتإيرول اونديراوجلو