يهدد إغلاق إذاعة بي بي سي العربية قدرة السودانيين على الوصول إلى معلومات موثوقة، كما يخاطر بتضخيم المعلومات المضللة.
نشر أولًا على سمكس.
لم تعد “هنا لندن” تتردّد على مسامع ملايين السودانيين/ات، في الريف خاصة والعالم العربي عامة، منذ 27 كانون الثاني/يناير المنصرم، بعد 85 عامًا من البثّ المستمرّ.
ولا يبدو توقّف راديو “بي بي سي عربي” أمرًا عاطفيًا بالنسبة لملايين السودانيين/ات فحسب، بل يمثّل فقدانهم/ن لواحدة من أهم مصادر معلوماتهم/ن المستقلّة، في بلاد لا يزال استخدام الإنترنت فيها محدودًا مقارنة بعدد سكانها.
فجوة رقمية يعالجها الراديو
في العام 2015، أقرّ البرلمان السوداني قانون حق الحصول على المعلومة. وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجهت للقانون، فهو لا يُطبّق بما يكفي بسبب ما يرجعه البعض إلى عدم رغبة السلطات في إتاحة المعلومات للشعب. وفي عام 2018 أنشأت السلطات في السودان “صندوق الخدمة الشاملة“، وفقًا لقانون جهاز تنظيم الاتصالات والبريد، بغرض دعم مزودي الخدمات للعمل على سدّ الفجوة الرقمية والمساهمة في “تحسين وتسهيل الوصول للتقنيات الحديثة”.
ولكن، كشف “جهاز تنظيم الاتصالات والبريد” عام 2022 أنّ المشروع يواجه بعض العقبات التي يمكن تلخيصها في التأخّر باستيراد الأجهزة والمعدات، والحاجة لتطوير سياسة جديدة تلبي متطلبات التشغيل التشاركي لأبراج الاتصالات بين مزودي الخدمات، بالإضافة إلى تدني جودة واستمرارية الخدمة من جانب مزود الخدمة في المناطق المختارة لتقديم خدمات صندوق الخدمة الشاملة.
والآن، وفقًا لإحصاءات العام 2022، تبلغ نسبة انتشار الإنترنت في السودان 30.9%، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بعدد السكان الذي يُقدر بأكثر من 48 مليون نسمة.
ومع ذلك، اتجه المواطنون/ات للبحث عن المعلومات على شبكة الإنترنت التي رأوا فيها مصدرًا مرنًا. ولكن، بسبب عدم قدرة الجميع على الوصول إلى الإنترنت لأسباب مختلفة، ظلّت الإذاعة مصدرًا أساسيا في المناطق الطرفيّة والأحياء الفقيرة.
برزت أهمية الراديو أكثر فأكثر في السودان منذ عام 2010، حين علّقت السلطات السودانية بث إذاعة “بي بي سي عربي” على خلفيّة “مخالفات ارتكبتها المؤسسة”، ولم تسمح بعودة البث إلا في العام 2019، عقب الإطاحة بالرئيس المعزول عمر البشير. وبعد عودة بثها عام 2019، انحصر نطاق بث “بي بي سي” بحدود العاصمة السودانية، الخرطوم. لا شكّ في أنّ هذا النطاق صغيرٌ نوعًا ما، ولكنه يساهم في سد الفجوة الرقمية في ولاية يفوق عدد سكانها 15 مليون نسمة، في بلاد تصل نسبة الفقر فيها إلى 65%، ما يطرح أسئلة حول كيفيّة وصول ذوي/ات الدخل المحدود وكبار السن إلى معلومات موثوقة في ظل غلاء أسعار خدمات الانترنت.
الراديو في الريف السوداني
دخل البث الراديوي في السودان إبان الحرب العالمية الثانية، في العام 1940. وبدأ بعد ذلك في التمدد إلى أن وصل بث الإذاعة القومية مناطق عديدة خارج العاصمة والمدن الكبرى. وقد شكّل الراديو بداية تلقّي السودانيين/ات للمعلومات عبر مصادر غير مقروءة، مما ساعد في إيجاد المزيد من المتابعين/ات والمستخدمين/ات، خاصّة أنّ طبيعة عمل السودانيين/ات في الرعي والزراعة سابقًا سمحت لهم/ن بالاستماع إلى الراديو خلال ساعات عملهم/ن.
ساهم دخول التقنيات الحديثة، ومن ضمنها الإنترنت في إهمال الدولة لتنمية قطاع الخدمات الإذاعية. وبقيت غالبية أرياف إقليم دارفور، أكبر أقاليم السودان، تقع خارج نطاق تغطية الإذاعات الوطنية منذ عشر سنوات، وذلك بسبب حاجة محطات البث للصيانة، بحسب تصريح المدير السابق لهيئة الإذاعة والتلفزيون في ولاية شمال دارفور، محمد حسين آدم. وتاليًا، وضعت رداءة خدمات الإذاعة في بعض مناطق الريف السوداني، مع تعثر الدولة في تنمية خدمات الاتصالات، سكّان الريف في عزلة من الأحداث من حولهم/ن.
يواجه المواطنون/ات في ريف دارفور مشكلتين أساسيتين في الوصول إلى المعلومات، وفقًا لما يقوله لسمكس الناشط السوداني، يحيى صديق. أول هذه المشاكل عدم توفّر الكهرباء، وثانيها عدم توفر خدمات الاتصالات الحديثة. وبعدما كانت “بي بي سي عربي” مصدرًا رئيسيًا للمعلومات قبل قطع بثّها، أصبح الآن راديو دبنقا، الذي يعمل على الموجات الطويلة (AM)، الإذاعة المفضّلة بالنسبة إلى كثيرين/ات، بخاصة وأنّه يوفّر معلومات حول الحراكات المنية.
معلومات مضلّلة
تمثّل العقبات التي تحول دون توسيع تغطية خدمات الاتصالات عائقًا كبيرًا أمام حصول المواطنين/ات على المعلومات، مما يمنعهم/ن من الاطلاع على غير الرواية الحكومية التي قد تسعى إلى التضليل كما حدث في حالات كثيرة إبّان الانقلاب. ليس سرًا أنّ إغلاق “بي بي سي عربي” أثّر على نقاء فضاء المعلومات في السودان من التضليل و البروباغاندا الإعلاميّة، والتي يمكن أن تُبث في بعض الأحيان على الإذاعات المحلية. وقد تجلّى هذا إبان تسمية العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية، انقلاب أكتوبر 2021 بـ”الإجراءات التصحيحية”، وفقًا لتوجيهات السلطات.
يقول الخبير الإعلامي في منظمة “يونيسكو”، عبد القادر محمد، لسمكس، إنّ “إذاعة ‘بي بي سي’ هي من الإذاعات الموثوقة بالنسبة إلى السودانيين/ات. في السابق، عندما كان يقال إنّ الخبر نُقل عن “إذاعة لندن”، يُصبح موثوقًا بشكل تلقائيّ”.
أثّرت “بي بي سي عربي” على المستمعين/ات السودانيين/ات لا سيما في المناطق الريفية لعدة أسباب، وفقًا لمحمد. أولًا، كونها غير خاضعة لإشراف سلطة معيّنة، وذلك لأنّ الإذاعات المحلية تعمل تحت الإشراف الحكومي، ما يُسقط صفة الاستقلالية عنها. وثانيًا، البنية التحتية، أي عدم توفّر الإنترنت، ما يجعل عملية مواكبة المستجدات أكثر صعوبة. وثالثًا، الأُمّية، التي تشكّل عائقًا في استخدام الإنترنت وقراءة الصحف، يضيف محمّد.
ولكنّ الصحافية السودانية درة قمبو لديها رأيٌ آخر، إذ تعتبر أنّ “الإعلام يعيش حالة من صراع الأجندة، بخاصّةٍ في الدول الناطقة باللغة العربية، وهو ما ظهر جليًا في تغطية ‘بي بي سي’ ما قبل انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021”. بالإضافة إلى ذلك، تشرح قمبو أنّ “غياب ‘بي بي سي’ أثّر لتسع سنوات في نفاذيتها للمستمع/ة السوداني/ة، ما جعلها، نوعًا ما، بعيدة عن الأجيال الجديدة وبالتالي فإن قرار إغلاقها غير مؤثر بالنسبة إلى الشباب السوداني بصورة عامة”.
صعوبة الوصول إلى الإنترنت عند البعض، أو حتّى استحالته بالنسبة إلى كثيرين/ات، يؤثرون على حقّ حصول المواطنين/ات على المعلومات وانتشار التضليل، لا سيما في المناطق الفقيرة وبين الفئات التي تعتمد على الراديو كمصدر رئيسي للمعلومات – إلى حين.