يؤكد العنف المتصاعد في شمال غرب سوريا على الحاجة الملحة للعدالة والحل السياسي لإنهاء عقود من الإفلات من العقاب.
نشر أولًا على مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
إن تصعيد الأعمال العدائية وأعمال العنف في شمال غرب سوريا، بدءً من 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، بين فصائل المعارضة وقوات الحكومة السورية وحلفائها؛ يكشف عن التكلفة المستمرة والمتصاعدة لكل نزاع معلق لا يتم حله. إذ أدى إفلات الحكومة السورية من العقاب عن جرائمها، والفشل الدولي في فرض المساءلة، إلى استمرار الوضع الراهن الهش وغير العادل.
يعكس الوضع الإنساني والسياسي المتردي في مواقع مثل حلب أو إدلب، منذ 13 عامًا قبل اندلاع هذه المواجهات الأخيرة، حجم الإهمال المنهجي الذي لا يزال يغذي عدم الاستقرار. إذ لا تزال سوريا في أمس الحاجة إلى حل سياسي عادل وشامل وحاسم. وفيما يعرب مركز القاهرة عن قلقه العميق إزاء التصعيد الأخير للأعمال العدائية، يحذر من أن تجدد العنف سيزيد من تفاقم الكارثة الإنسانية المستمرة في سوريا، ويجدد الحاجة الملحة لحل سياسي يحمي أرواح المدنيين، ويوقف الدمار، ويحاسب جميع الجناة.
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، تصاعد النزاع في شمال غرب سوريا، في أعقاب عملية «ردع العدوان» التي شنتها المعارضة بقيادة (هيئة تحرير الشام). وقد أدت الاشتباكات المسلحة العنيفة إلى تغييرات كبيرة في توزيع السيطرة على الأراضي، بين فصائل المعارضة والقوات الحكومية. بينما أسفرت هذه الاشتباكات، حتى 1 ديسمبر/كانون الأول، عن مقتل أكثر من 44 مدنيًا، بينهم 12 طفلاً و7 نساء على الأقل، ونزوح أكثر من 48,500 شخصًا. كما تعطل الوصول للخدمات الحيوية وسط أزمة إنسانية حادة، إذ تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 16.7 مليون شخص في مختلف أنحاء سوريا بحاجة لمساعدات إنسانية.
إن ضمان المساءلة حتى أعلى القيادات، بما في ذلك الرئيس بشار الأسد ومساعديه، هو حجر الزاوية في أي مسار قابل للتطبيق نحو سوريا ديمقراطية ذات سيادة. فبدون العدالة والمحاسبة عن الفظائع التي لا تعد ولا تحصى، ستستمر الحلقة المفرغة من القمع والصراع، في مخاطرة بإغراق البلاد في مزيد من الفوضى.
آمنة القلالي – مديرة البحوث بمركز القاهرة
في 2014، أسفرت ضغوط دولية، لـ65 دولة عضو بالأمم المتحدة بقيادة فرنسا، عن إحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية من خلال مجلس الأمن. ورغم ذلك، نجحت روسيا والصين باستخدام حق النقض (الفيتو) في وأد هذه المحاولة. ومنذ ذلك الحين، لا تزال جهود المساءلة في سوريا تتعرض للعرقلة من قبل مختلف الأطراف الرئيسية في النزاع، بما في ذلك روسيا وحلفائها، والولايات المتحدة وحلفائها، وكذلك الدول العربية.
مؤخرًا، بدا أن هناك مسار آخر محتمل لتحقيق العدالة لغير الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، رغم أنه لم يؤيد بعد من الغرفة العليا، وذلك وفق تقرير صدر مؤخرًا عن مجموعة العمل القانوني حول العالم «Legal Action Worldwide» في قضية ميانمار وأثرها الممتد إلى بنغلاديش. إذ أكدت الدائرة التمهيدية اختصاصها في ميانمار، رغم أنها ليست طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية، بسبب الطبيعة العابرة للحدود للجرائم التي تؤثر على دولة طرف، هي بنغلاديش. وعلى المنوال نفسه، أدت حملة القمع الوحشية التي تشنها الحكومة السورية على المعارضة، وهجماتها المنهجية على المدنيين، بما في ذلك القصف العشوائي والهجمات الكيميائية والتعذيب، إلى النزوح الجماعي لمئات الآلاف من السوريين إلى الأردن، التي هي دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية. الأمر الذي يمكن أن يسمح للمحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق في جرائم الترحيل والاضطهاد والأعمال اللا إنسانية الأخرى، التي نشأت في سوريا وامتد أثرها إلى الأردن.
أن تصعيد الاقتتال المستمر في سوريا، يسلط الضوء على فشل العملية السياسية، ويعكس أثر التدخل الأجنبي وإفلات الحكومة السورية من العقاب. فرغم قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) ، بوقف إطلاق النار في سوريا والعمل على التوصل لحل سياسي شامل، إلا أن التدخلات الأجنبية، سواء المباشرة أو من خلال الوكلاء، قد أدت إلى تعطيل الحل، وتفاقم الأزمة، وإحباط جهود السلام.
للمواطنين السوريين الحق في عملية سلام حقيقية، يقودها السوريون أنفسهم، على النحو المبين في إعلان فيينا 1993، الذي يدعم حق جميع الشعوب في تقرير المصير. ولكن تحقيق ذلك لا يرتهن فقط بمجرد قرارات؛ بل يتطلب مشاركة فعالة وتحرك ذا مغزى من القوى الإقليمية والعالمية. فتطبيع العلاقات مع نظام الأسد، وإعادة قبول سوريا كعضو في جامعة الدول العربية، فضلاً عن المبادرات الدبلوماسية الأخيرة من دول الاتحاد الأوروبي وجهود بعضها لتصنيف سوريا «مكانًا آمنًا» لعودة اللاجئين؛ قد أعاق التقدم نحو السلام. إذ لم تكن هذه التحركات إلا إعلان دولي بقبول إفلات نظام الأسد من العقاب على جرائمه بحق الشعب السوري.
معلومات خلفية
شهدت حلب والمناطق المحيطة بها أعمال عدائية قبل التصعيد الأخير في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، إذ شنت قوات الحكومة السورية والقوات الروسية الحليفة، غارات جوية وقصف لمواقع عسكرية وبنية تحتية مدنية. مما أسفر عن سقوط العديد من الضحايا وتسبب في نزوح السكان.
تتحمل الحكومة السورية، برئاسة بشار الأسد، المسئولية عن عقود من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقمع الشديد للمعارضة، سواء قبل 2011 أو بعدها. إذ استهدفت حكومة الأسد المعارضة على نطاق واسع ومنهجي، بما في ذلك المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين، من خلال الرقابة الشديدة، والاحتجاز التعسفي، والإخفاء القسري، والتعذيب، والتمييز المنهجي على أساس العرق والدين. كما ارتكبت حكومة الأسد جرائم حرب متعددة خلال هجمات عسكرية واسعة النطاق ومنهجية ضد المعارضة، وهجمات جوية عشوائية على المدنيين، بما في ذلك باستخدام الأسلحة الكيميائية.
هيئة تحرير الشام هي جماعة مسلحة تعمل بشكل أساسي كسلطة شبه إدارية بحكم الأمر الواقع في المناطق التي تسيطر عليها في شمال غرب سوريا. وقد أعادت تسمية نفسها من (جبهة النصرة)؛ جماعة سلفية جهادية عابرة للحدود كان هدفها الإطاحة بنظام الأسد وإنشاء دولة إسلامي، إلى (هيئة تحرير الشام)؛ جماعة إسلامية أكثر تمحورًا حول سوريا وتسعى لنشر انطباع عام عنها كجماعة معتدلة. وقد تم إدراجها كجماعة إرهابية من قبل العديد من الجهات الفاعلة، بما في ذلك مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي. وفي أغسطس/آب 2024، وجدت لجنة التحقيق في سوريا أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن (هيئة تحرير الشام) تواصل ارتكاب أعمال الإخفاء القسري والتعذيب والإعدام بإجراءات موجزة فيما قد يصل حد جرائم الحرب.
منذ تصاعد المواجهات الأسبوع الماضي، تعهدت (هيئة تحرير الشام) بحماية الأقليات من أي هجمات أو تهديدات على أساس العرق أو الدين، بما في ذلك المسلمين الشيعة والمسيحيين والأكراد، باعتبارهم «جزء لا يتجزأ من الهوية السورية المتنوعة».