متحمسة ومحققة وغير خائفة. كانت دافني كاروانا غاليزيا صحفية استقصائية ناقدة بشكل لاذع للسلطة ودفعت الثمن النهائي لكشفها عن الفساد في مالطا.
"هناك محتالون في كل مكان تنظرون إليه الآن. الوضع بائس".
كانت دافني كاروانا جاليزيا، ٥٣ عاما، واحدة من أشهر الصحفيين في مالطا. كشفت أعمالها الأكثر شهرة عن الفساد السياسي والمالي الذي شاهدته في كل مكان في مالطا؛ ولذلك كانت تحظى باحترام من قرائها، مثيرة غضب الفاسدين.
بعد ظهر يوم ١٦ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٧، قُتلت كاروانا جاليزيا في سيارة مفخخة. كانت تقود سيارة مؤجرة بالقرب من منزلها في بيدنيا عندما انفجرت عبوة ناسفة تحت سيارتها. كان الانفجار قويًا لدرجة العثور على أجزاء متناثرة من السيارة بأماكن متعددة؛ كما عثر ابنها ماثيو على بقايا جثة كاروانا جاليزيا على بعد ٨٠ مترا من مكان الانفجار. وكانت والدته رابع شخص في مالطا يُقتل في سيارة مفخخة منذ بداية عام ٢٠١٦.
عملت كاروانا جاليزيا كصحفية لمدة ٣٠ عامًا. بدأت حياتها المهنية في عام ١٩٨٧، وكانت تعمل كمراسلة صحفية لصحيفة صنداي تايمز في مالطا. وفي عام ١٩٩٢، أصبحت محررة مشاركة في صحيفة مالطا المستقلة التي كتبت فيها مقالات عمود حتى وفاتها. ومع ذلك، كانت مدونة كاروانا جاليزيا “بث مباشر” من أشهر أعمالها والتي أسستها في عام ٢٠٠٨، وكانت تحتوي على تحقيقات استقصائية وتعليقات صارمة.
سقط العديد من أقوى الشخصيات في مالطا تحت نير كاروانا جاليزيا التي قامت بكشف سجلاتهم الماضية والحالية، وفي بعض الأحيان – فسادهم. وعندما كانت تعتقد أن شخصا ما فاسدا، كان نقدها كاويًا. وشملت أهدافها رئيس وزراء مالطة، وزعيم المعارضة، ومختلف الأعضاء الآخرين في الأحزاب السياسية الرئيسية. ونتيجة لذلك، أصبحت مدونتها واحدة من أكثر المواقع شعبية في مالطا: فقد اجتذبت بانتظام أكثر من ٤٠٠,٠٠٠ زيادة يوميا – أكثر من توزيع الصحف جميعها في البلاد.
لقد أصبح لها الكثير من الأعداء بسبب عملها. وكانت ضحية تهديدات متكررة بالقتل، وتواجه ادعاءات بشكل منتظم في قضايا التشهير. وعند وفاتها، كانت تمثل أمام ٤٢ قضية تشهير وقذف ضدها؛ وتم تقديم العديد من تلك القضايا من قبل كبار السياسيين.
وفي شهر شباط ٢٠١٧، تحدثت كاروانا جاليزيا مع المعهد الدولي للصحافة عن إساءة استخدام قوانين القذف من قبل الأشخاص الأقوياء في مالطا: “يجب إلغاء قوانين التشهير الجنائي”. واضافت: “ببساطة لا يمكن أن يستخدم السياسيون الشرطة لمقاضاة الصحفيين الذين يكتبون عنهم. إن القانون الذي كان يهدف إلى حماية الأبرياء من الافتراء يتم التعامل معه بصورة خاطئة من قبل الأقوياء ضد من يعارضونهم”.
كثيرا ما أثيرت المخاوف بشأن الفساد المالي والسياسي في مالطة. إن حزبيها السياسيين الرئيسيين – القومي والعمل – لهما علاقات وثيقة بالعائلات القوية في الجزيرة، كما أن الخطوط الفاصلة بين السياسة والأعمال التجارية والقضاء غير واضحة في بعض الأحيان. إضافة إلى ان الاقتصاد يعتمد بشكل كبير على الخدمات المالية، وصناعة التهرب من الضرائب والمقامرة عبر الإنترنت وبإمكانات ضخمة للفساد. لقد كتبت كاروانا جاليزيا في آخر مشاركة على مدونتها قبل وفاتها: “هناك محتالين في كل مكان تنظرون إليه الآن. الوضع بائس”.
كما ركزت معظم أعمالها خلال السنتين الأخيرتين من حياتها على الكشف عن الأنشطة المالية المشبوهة التي قدمتها أوراق بنما السيئة السمعة (١١.٥ مليون وثيقة مسربة تشرح بالتفصيل الكيانات التي تتهرب من الضرائب)؛ كما كشفت جاليزيا أن رئيس هيئة الأركان لرئيس الوزراء كان مالكا لشركات بحرية سرية، وكتبت أن زوجة رئيس الوزراء تلقت مليون دولار أمريكي (تم دفعها إلى شركة في الخارج) من قبل ابنة رئيس أذربيجان.
لقد أثار قتلها غضب وطني ودولي. وأصدر الاتحاد الأوروبي والمنظمات الغير حكومية ووسائل الإعلام بيانات علنية تدعو إلى إجراء تحقيق شامل ومستقل. وخرج الآلاف من الناس إلى شوارع العاصمة المالطية فاليتا، للمطالبة بتحقيق العدالة لكاروانا جاليزيا؛ وحملوا لافتات كتب عليها “لن يتم اسكات الصحفيين” و “نحن لسنا خائفين”.
رأى الكثيرون صلة مباشرة بين عمل كاروانا جاليزيا ومقتلها. وكان من بينهم ابنها، ماثيو، الذي كتب على الفيسبوك بعد يوم واحد من وفاتها:
“تم اغتيال والدتي لأنها كانت واقفة بين سيادة القانون والذين يسعون إلى انتهاكه، مثل العديد من الصحفيين القويين. لكنها استهدفت أيضا لأنها الشخص الوحيد الذي فعل ذلك. هذا ما يحدث عندما تكون مؤسسات الدولة عاجزة: آخر شخص يقف أمام ذلك هو الصحفي. مما جعلها أول شخص يُقتل …. لقد سمحت الحكومة في مالطة بازدهار ثقافة الإفلات من العقاب”.
لقد أثيرت مخاوف مماثلة بعد شهر من قبل البرلمانيين الذين زاروا الجزيرة في مهمة لتقصي الحقائق. وخلال حديثهم عن “مخاوفهم الخطيرة” بشأن سيادة القانون فى مالطا، لاحظ النواب البرلمانيون “درجة عالية من عدم الرغبة في التحقيق” و “عدم ملاحقة الفساد وغسيل الأموال” وانطباع عام عن “عدم كفاءة” كبار مسؤولي الشرطة.
وبتاريخ ٤ كانون الأول ٢٠١٧، أعلن رئيس الوزراء مسقط أن عشرة رجال قد اعتقلوا بسبب قتل كاروانا جاليزيا. وبعد يوم واحد، ظهر ثلاثة من هؤلاء الرجال (فنسنت مسقط والإخوة جورج وألفريد ديجيورجيو) أمام المحكمة. وتم اتهامهم بالقتل والاستخدام الإجرامي للمتفجرات والمشاركة في جريمة منظمة والمؤامرة الجنائية. وانكروا جميعهم التهم.
لقد أحيى أعضاء آيفكس ذكرى دافني كاروانا جاليزيا خلال اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب عام ٢٠١٧.
وفي شهر نيسان عام ٢٠١٨، اجتمع المراسلون وأصحاب الصحف والمنظمات الإعلامية لإطلاق مشروع دافني. وتهدف هذه المبادرة التعاونية بالمضي قدمًا في العمل المناهض للفساد الذي بدأته كاروانا جاليزيا. وفي شهر حزيران من عام ٢٠١٨، تم الإبلاغ بأنه سيتم ابعاد القاضي المسؤول عن التحقيق في مقتل كاروانا جاليزيا عن القضية بسبب ترقية غير مطلوبة؛ وتخشى منظمات حرية الصحافة بأن يؤدي ذلك إلى تأخير التقدم في التحقيق.
بتاريخ ٢٦ حزيران ٢٠١٩، صوتت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا على تبني تقرير حول مقتل كاروانا جاليزيا الذي أشار إلى “الإخفاقات النظامية” في سيادة القانون في مالطا، وربط هذه الاخفاقات بالشرطة التي تعرضت لانتقادات شديدة خلال تحقيقها بالجريمة. الأهم من ذلك، دعا التقرير إلى إجراء تحقيق عام مستقل في جريمة القتل؛ لقد قاومت مالطا تنفيذ التحقيق، لكن الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا منحتها ثلاثة أشهر للبدء بالتحقيق.
في شهر تموز من عام ٢٠١٩، تم الإعلان بأنه سيتم احالة المشتبه بهم الثلاثة بقتل كاروانا جاليزيا إلى المحاكمة.
بتاريخ ١٢ أيلول، كتبت مفوضة حقوق الإنسان في مجلس أوروبا، دنيا مياتوفيتش، إلى رئيس وزراء مالطا رسالة تدعوه فيها إلى سحب ما يقارب ٣٠ دعوى متعلقة بالتشهير المدني ضد عائلة كاروانا جاليزيا. وفي رسالتها إلى رئيس الوزراء، قالت أن مثل هذه الدعاوى تفرض ضغوطًا نفسية ومالية غير مبررة على الأسرة ويمكن اعتبارها تخويف.
أما بتاريخ ٢٠ أيلول ٢٠١٩، وقبل ستة أيام فقط من الموعد النهائي الذي حددته الجمعية البرلمانية، أعلنت الحكومة المالطية عن بدء التحقيق العام في مقتل كاروانا جاليزيا. ومع ذلك، ردت أسرة الصحفية والآخرون بإثارة مخاوفهم بشأن حيادية الأعضاء الذي تم تعيينهم في مجلس التحقيق.
شهد أواخر شهر تشرين الثاني ٢٠١٩ تطورات مثيرة في التحقيق في جريمة القتل: تم القبض على رجل الأعمال يورجين فرينش وتم اتهامه بالتواطؤ في اغتيال كاروانا جاليزيا؛ واستقال رئيس فريق عمل مسقط، كيث شمبري، واعتقلته الشرطة واستجوبته فيما يتعلق بالتحقيق في جريمة القتل؛ وهناك علاقات تجمع بين فرينش وشمبري، ووفقًا للادعاءات لديه أدلة تثبت أن رئيس فريق عمل مسقط السابق كان ضالعا في مؤامرة القتل (إن شخص وسيط عفا عنه مسقط مقابل تعاونه مع التحقيق في القتل، أفاد بذلك أيضًا في رسالة له)؛ كما استقال كل من وزير الاقتصاد كريس كاردونا، ووزير السياحة كونراد ميززي (ولكن عاد إلى منصبه). لقد كان جميع المسؤولين الحكوميين الثلاثة (ومسقط) ضمن التحقيق الاستقصائي الذي أجرته كاروانا جاليزيا ويتعرضون لانتقادات قاسية منها.
في ظل الكشف عن جميع هذه الاخبار والاستقالات، أعلن مسقط أنه سيتنحى عن منصبه كرئيس للوزراء (وسيدخل ذلك حيز التنفيذ في كانون الثاني ٢٠٢٠.
في رده على تطورات شهر تشرين الثاني، قال بيتر أومتزيغت، الذي كتب تقريرًا عن جريمة قتل كاروانا جاليزيا، إن مسقط قد يكون “متورطًا” في القضية. ودعا كل من ديفيد كاي، مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحرية التعبير، وأجنيس كالامارد، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالات القتل خارج نطاق القضاء، مسقط إلى الابتعاد الكامل عن عملية التحقيق في مقتل كاروانا جاليزيا بسبب صلاته بالذين تورطوا في جريمة.
في أوائل شهر كانون الثاني ٢٠١٩، أرسل برلمان الاتحاد الأوروبي الذي كان يشعر بقلق عميق إزاء أحداث تشرين الثاني، بعثة إلى مالطا. وبعد اجتماعها مع رئيس الوزراء مسقط، صرحت عضوة البرلمان الأوروبي صوفي إيند فيلد بأنها لم تطمئن لما سمعته، وأن قرار مسقط “البقاء لفترة أطول من اللازم هو خطأ آخر في الحكم“.
بحلول منتصف شهر كانون الأول ٢٠١٩، انتشرت تقارير صحفية تفيد بأن مسقط له صلة مباشرة بالمشتبه في ارتكابه جريمة القتل، يورغن فينيش. ودعا الأكاديميون وأعضاء البرلمان الأوروبي وأعضاء أيفكس وبيتر أومتزيغ، رئيس الوزراء إلى التنحي على الفور.
وفي منتصف شهر كانون الأول أيضًا، وافق برلمان الاتحاد الأوروبي على قرار يدعو الاتحاد الأوروبي إلى فتح حوار رسمي بشأن سيادة القانون مع مالطا بسبب مخاوف الاتحاد من تعامل مالطا بالتحقيق في جريمة القتل.
كما شهد شهر كانون الاول أيضًا أول جلسة استماع للتحقيق العام الذي طال انتظاره حول مقتل كاروانا جاليزيا.
أما في شهر كانون الثاني فقد حل روبرت أبيلا محل جوزيف مسقط كرئيس وزراء لمالطا. كما شهد استقالة وزيرة جزيرة جوزو، جوستين كاروانا، بعد الكشف عن الصداقة بين المشتبه به في جريمة القتل، يورغن فينيش، وزوجها سيلفيو فاليتا، الذي كان نائب رئيس الشرطة. وكان فاليتا المحقق الرئيسي في مقتل كاروانا جاليزيا، لكن تم تنحيته من القضية في منتصف عام ٢٠١٨ بسبب تضارب المصالح. وفي شهر كانون الثاني أعلنت الشرطة أنه يخضع للتحقيق.
بتاريخ ١٧ كانون الثاني، استقال مفوض الشرطة المالطية لورانس كوتاجار، بعد انتقاد طريقة تعامله مع التحقيق في جريمة القتل.
في سبتمبر/أيلول ٢٠٢٣، طالبت مجموعات حرية الصحافة الحكومة بنشر تقرير لجنة الخبراء الإعلاميين، التي أنشأتها الحكومة لتقديم المشورة بشأن تنفيذ توصيات لجنة التحقيق العامة، والتشاور على نطاق واسع بشأن التشريعات المقترحة اللاحقة.
الرسم من فلوريان نيكول