في تقرير جديد، تفحص هيومن رايتس ووتش استخدام إسرائيل للأوامر العسكرية الوحشية لقمع الفلسطينيين، من خلال تجريم النشاط السياسي غير العنيف، وتقييد حقهم في حرية التعبير، والتجمع، وتكوين الجمعيات.
تم نشر هذا التقرير اولاً على موقع منظمة هيومن رايتس ووتش بتاريخ 17 كانون الأول 2019
حرم الجيش الإسرائيلي أجيالا من فلسطينيي الضفة الغربيّة من حقوقهم المدنية الأساسية، بما في ذلك الحق في حرية التجمع وتكوين الجمعيات والتعبير، بالاعتماد بشكل منتظم على أوامر عسكرية صادرة منذ أيام الاحتلال الأولى. حتى لو كانت هذه القيود مبررة آنذاك لحفظ النظام العام والسلامة العامة، فإن الاستمرار في تعليق الحقوق الأساسية بعد أكثر من نصف قرن – دون أي تغيير في الأفق – هو انتهاك لمسؤوليات إسرائيل الأساسية بموجب قانون الاحتلال.
مسؤوليات سلطة الاحتلال تجاه حقوق السكان المحتلين تزيد مع فترة الاحتلال. لا تزال إسرائيل تسيطر بشكل أساسي على الضفة الغربية، رغم تمتع السلطة الفلسطينية بحكم محدود في بعض المناطق، إلا أنها لا تمنح للأشخاص الذين يعيشون تحت سيطرتها الحقوق التي يستحقونها، بما في ذلك الحق في المعاملة المتساوية بصرف النظر عن العرق أو الدين أو الهوية الوطنية. كان على إسرائيل منذ زمن طويل احترام حقوق الفلسطينيين، وذلك باستخدام الحقوق التي تمنحها للمواطنين الإسرائيليين كمعيار، وهو التزام قائم بصرف النظر عن أي ترتيبات سياسية في الأراضي المحتلة حاضرا ومستقبلا.
في 7 يونيو/حزيران 1967، احتل الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصدر إعلانا عسكريا سمح بتطبيق “نظام الدفاع (الطوارئ) لسنة 1945” (نظام الدفاع لسنة 1945)، الذي أصدرته سلطات “الانتداب البريطاني” لإخماد الاضطرابات المتصاعدة. مكّن نظام الدفاع لسنة 1945 السلطات، من بين أمور أخرى، من إعلان الجمعيات التي تعمل على “كره أو ازدراء… أو التحريض على عدم الولاء” للسلطات “جمعية غير مشروعة”، وتجريم الانتماء لها أو حيازة مواد تخصها أو متعلقة بها، ولو بشكل غير مباشر.
في أغسطس/آب 1967، أصدر الجيش الإسرائيلي “الأمر العسكري رقم 101″، الذي يجرّم المشاركة في تجمعات تزيد عن عشرة أفراد بشأن موضوع “يُمكن تفسيره كسياسي” دون ترخيص، وتصل عقوبة ذلك إلى السجن عشر سنوات. يحظر هذا الأمر أيضا نشر أي مادة “لها دلائل سياسية” أو إظهار “أعلام أو رموز سياسية” دون إذن عسكري. بعد أكثر من 52 عاما، يستمر الجيش الإسرائيلي في محاكمة وسجن الفلسطينيين بموجب نظام الدفاع لسنة 1945 والأمر العسكري رقم 101 لسنة 1967.
في 2010، أصدر الجيش الإسرائيلي “الأمر العسكري رقم 1651″، الذي حلّ مكان 20 أمرا سابقا، وفرض عقوبة السجن عشر سنوات على كل من “يحاول، شفويا أو بأية طريقة أخرى، التأثير على رأي الجمهور في المنطقة [الضفة الغربية] بشكل يمسّ سلامة الجمهور أو النظام العام” أو “ينشر أقوال مدح، مناصرة أو دعم لمنظمة معادية، بأعمالها أو بأهدافها “، ويعتبر ذلك “تحريضا”. كما تضمّن هذا الأمر صياغة مبهمة لـ “مخالفات ضد سلطات المنطقة” تصل عقوباتها إلى السجن المؤبد لكل “فعل أو تقصير من شأنهم أن يمسوا أو يضرّوا أو يعيقوا أو يعرضوا للخطر أمن المنطقة أو أمن قوات جيش الدفاع الإسرائيلي” أو دخول أو “التواجد بقرب” أملاك تابعة للجيش أو الدولة.
يمنح قانون الاحتلال لسلطات الاحتلال صلاحيات واسعة لتقييد الحقوق، لكنه يفرض عليها قيودا أساسية، تشمل الالتزام بتسهيل الحياة العامة للشعب المحتل. استخدم الجيش الإسرائيلي لأكثر من 50 عاما أوامر عسكرية فضفاضة لاعتقال الصحفيين والنشطاء الفلسطينيين وغيرهم بسبب تعبيرهم وأنشطتهم، والكثير منها سلمية، مثل الاحتجاج أو انتقاد أو معارضة السياسات الإسرائيلية. صيغت هذه الأوامر بطريقة فضفاضة لدرجة أنها تنتهك التزام الدولة المكفول في القانون الدولي لحقوق الإنسان بتوضيح السلوكيات التي قد تتسبب في عقوبات جنائية. في حالات أخرى، تستخدم السلطات الإسرائيلية بشكل تعسفيّ تُهما مشروعة ضدّ النشطاء، مثل تلك المتعلقة بمخالفات التعدي أو التحريض، لتكميم معارضة حكم إسرائيل. تعليق حقوق الفلسطينيين إلى أجل غير مسمى أدّى إلى شلّ قدرتهم على التمتع بحياة عامة وسياسية أكثر اعتيادية.
رغم أن طول مدّة الاحتلال أتاح للسلطات الإسرائيلية الكثير من الوقت والفرص لوضع سياسات أقل تقييدا، إلا أنها استمرّت في الاعتماد على نفس الأوامر العسكرية إلى اليوم، ما تسبب في حرمان الفلسطينيين الذين يعيشون تحت احتلالها من حقوقهم المدنية الأساسية.
في الواقع، تذهب السلطات الإسرائيلية إلى أبعد من ذلك، وتُنكر أنّ التزاماتها الحقوقية تشمل معاملة الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة. قوبل هذا الموقف بالرفض، بما في ذلك من قبل “لجنة حقوق الإنسان الأممية” و”محكمة العدل الدولية”، التي أقرّت في رأي استشاري سنة 2004 أن أهم معاهدة دولية للحقوق المدنية والسياسية – “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” (العهد الدولي) – “ينطبق على الأفعال التي تأتيها دولة أثناء ممارستها لولاية قضائية خارج أراضيها”، إلى جانب قانون الاحتلال.
يدرس هذا التقرير تأثير هذه الأوامر على الحياة العادية للفلسطينيين في الضفة الغربية، ومشروعيتها بعد أكثر من نصف قرن من الاحتلال، الذي ليس له نهاية في الأفق. قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “ستستمر القوات العسكرية والأمنية الإسرائيلية في السيطرة على المنطقة بأكملها، حتى [نهر] الأردن”.[1]
لا يغطي هذا التقرير كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهو يستثني القدس الشرقية، حيث تطبّق إسرائيل قانونها الداخلي بعد أن ضمّتها في 1967 في خطوة أحادية لا تغيّر من وضعها كأرض محتلة بموجب القانون الدولي، وكذلك غزة، حيث فكّكت إسرائيل سنة 2005 الحكومة العسكرية التي كانت هناك منذ 1967. التقرير لا يغطي أيضا حرمان إسرائيل فلسطينيي الضفة الغربية من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. يُسلّط التقرير الضوء على ثماني حالات توضيحية في الضفة الغربية استخدمت فيها السلطات الأوامر العسكرية، وتحديدا الأمرين 101 و1651، ونظام الدفاع لسنة 1945، لمحاكمة فلسطينيين في محاكم عسكرية بسبب تعبيرهم السلمي أو مشاركتهم في جماعات أو مظاهرات سلمية.
يستند التقرير إلى 29 مقابلة، أساسا مع معتقلين سابقين ومحامين يمثلون رجالا ونساء فلسطينيين عالقين في نظام المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وكذلك إلى مراجعة لوائح اتهام وقرارات لمحاكم عسكرية. أرسلت “هيومن رايتس ووتش” إلى الجيش الإسرائيلي، والشرطة و”جهاز الأمن الداخلي” (“شين بيت” بالعبرية) أسئلة مفصلة، والتمست وجهات نظرهم ومعلومات إضافية عن القضايا التي يغطيها التقرير، واستلمت إجابات موضوعية من الجيش والشرطة والتي ضميّناها إلى التقرير وأضفناها إلى الملاحق.
قام الجيش الإسرائيلي، بين 1 يوليو/تموز 2014 و30 يونيو/حزيران 2019، وبحسب البيانات التي قدمّها إلى هيومن رايتس ووتش، بمحاكمة 4,590 فلسطينيا لدخولهم “منطقة عسكرية مغلقة”، وهو تصنيف تضفيه بشكل متكرر تلقائيا على مواقع الاحتجاجات، و1,704 لـ” العضوية والنشاط في جمعية غير مشروعة”، و358 بسبب “التحريض”.
تعتمد قوات الاحتلال الإسرائيلية على أوامر عسكرية تسمح لها بمنع الاحتجاجات غير المرخص لها أو بإنشاء مناطق عسكرية مغلقة أو بسحق المظاهرات الفلسطينية السلمية في الضفة الغربية واعتقال المشاركين فيها.
تعتمد قوات الاحتلال الإسرائيلية على أوامر عسكرية تسمح لها بمنع الاحتجاجات غير المرخص لها أو بإنشاء مناطق عسكرية مغلقة أو بسحق المظاهرات الفلسطينية السلمية في الضفة الغربية واعتقال المشاركين فيها. مثلا، في 2016، احتجز الجيش الإسرائيلي الناشط الحقوقي فريد الأطرش، الذي يعمل لدى “الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان”، وهي هيئة شبه رسمية تابعة للسلطة الفلسطينية، أثناء مظاهرة سلمية في الخليل للمطالبة بإعادة فتح طريق أساسي وسط المدينة والذي يمنع الجيش الفلسطينيين من الوصول إليه. وجهت النيابة العسكرية له تهمتي “التظاهر دون ترخيص” بموجب الأمر العسكري رقم 101 ومحاولة “التأثير على رأي الجمهور في المنطقة بشكل يمسّ سلامة الجمهور أو النظام العام” عبر “التحريض” على الهتاف و”رفع أعلام السلطة الفلسطينية” وحمل لافتة كُتب عليها “افتحوا شارع الشهداء”. كما اتهمته النيابة العامة بدخول “منطقة عسكرية مغلقة” و”الاعتداء” على جندي، دون أن تقدّم أي أدلّة فعلية تثبت هذه المزاعم، باستثناء مشاركته في المظاهرة السلمية. أفرجت السلطات عن الأطرش بكفالة بعد أربعة أيام، لكنها مستمرة في محاكمته بسبب المشاركة في هذه المظاهرة رغم مرور ثلاث سنوات ونصف عليها.
قال الناشط عبد الله أبو رحمة لـ هيومن رايتس ووتش إن الجيش الإسرائيلي احتجزه ثماني مرات منذ 2005 بسبب مشاركته في احتجاجات ضدّ مسار جدار العزل الإسرائيلي في قريته بلعين. في مايو/أيار 2016، احتجزته السلطات 11 يوما بعد أن نظم سباق دراجات بمناسبة “يوم النكبة”، ذكرى تهجير الفلسطينيين الذي حصل أثناء إنشاء دولة إسرائيل سنة 1948. حكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن أربعة أشهر بموجب الأمر العسكري رقم 1651 بتهمة دخول “منطقة عسكرية مغلقة” و”إعاقة جندي”. احتجزه الجيش أيضا لـ 23 يوما أواخر 2017 بعد أن وضع عصا حديدية على الجدار العازل في حركة احتجاجية رمزية أثناء إحدى المظاهرات. في سبتمبر/أيلول 2019، اعترف بتهمة “تخريب منشأة تابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي” بموجب الأمر العسكري رقم 1651 لتجنب عقوبة قد تكون أطول.
منذ 1967، حظرت وزارة الدفاع الإسرائيلية أكثر من 411 منظمة، منها جميع الأحزاب الفلسطينية الكبرى، بما في ذلك “حركة فتح”، حزب الرئيس محمود عباس. استنادا إلى الأمر العسكري رقم 1651، وضع الجيش خالدة جرار (56 عاما)، عضو “المجلس التشريعي الفلسطيني”، رهن الاحتجاز الإداري دون محاكمة أو تهم من يوليو/تموز 2017 إلى فبراير/شباط 2019، بسبب نشاطها السياسي مع “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” (الجبهة الشعبية)، وهي جماعة مؤلفة من حزب سياسي وجناح مسلح كان قد شنّ هجمات على عسكريين ومدنيين إسرائيليين. لم تزعم السلطات أبدا أن خالدة شاركت شخصيا في أنشطة مسلحة. انتماؤها إلى الجبهة الشعبية تسبب لها أيضا بالسجن من أبريل/نيسان 2015 إلى يونيو/حزيران 2016 بعد أن اعترفت بتهمتي “العضوية في جمعية غير مشروعة” بموجب نظام الدفاع لسنة 1945 و”التحريض” بموجب الأمر العسكري رقم 1651، تجنبا لعقوبة أطول، على خلفية خطاب ألقته في تجمع لأسرى فلسطينيين يُزعم أنها دعت فيه إلى اختطاف جنود إسرائيليين. قال القاضي إن النيابة العامة واجهت “مشاكلا في إثبات الذنب” في هذه التهم. قالت جرار إن السلطات منعتها من السفر إلى خارج الضفة الغربية لأكثر من 30 عاما دون أمر قضائي، باستثناء زيارة واحدة إلى الأردن لأسباب طبية في 2010. احتجز الجيش الإسرائيلي جرار مجددا في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2019 ولا تزال في الاحتجاز حتى تاريخ نشر هذا التقرير.
في مارس/آذار 2019، اعتقل الجيش الإسرائيلي الفنان حافظ عمر (36 عاما)، ووجه له عدة تهم بموجب الأمر العسكري رقم 1651، منها “العضوية والنشاط في جمعية غير مشروعة”، وبموجب نظام الدفاع لسنة 1945، بسبب مزاعم انتمائه إلى مجموعة يسميها الجيش “الحراك الشبابي”، التي يُزعم أنها تنشط تحت “رعاية منظمة حزب الله”، الجماعة الشيعية اللبنانية. تتألف لائحة الاتهام، التي راجعتها هيومن رايتس ووتش، بالكامل من أنشطة سلمية، مثل الاجتماع مع نشطاء آخرين والمشاركة في احتجاجات، العديد منها ضدّ السلطة الفلسطينية. تساءل بعض المحللين عما إذا كان الحراك الشبابي موجودا أصلا كتنظيم. التهمة الوحيدة التي ليس لها طابع سلمي كانت مشاركته المزعومة في “مواجهات” غير محددة قبل أربع سنوات لما “ألقى الحجارة على قوات الأمن [الإسرائيلية]”، بحسب لائحة الاتهام.
حظر الجيش مجموعة واسعة من جماعات المجتمع المدني الأخرى. بين سبتمبر/أيلول 2015 ومايو/أيار 2016، اعتقلت القوات الإسرائيلية خمسة فلسطينيين على خلفية عملهم مع منظمة “قطر الخيرية”، التي تنشط في أكثر من 50 بلدا ولها شراكات مع الأمم المتحدة، و”أطباء بلا حدود”، و”الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، وغيرها. قالت الأمم المتحدة إنها تتشارك المبادئ الخيرية “الإنسانية” و”غير السياسية على الإطلاق” مع قطر الخيرية، لكن إسرائيل أضافت قطر الخيرية إلى قائمة المنظمات المحظورة في 2008 بسبب دعمها المزعوم لـ “حماس”، وهو ادعاء يُستخدم بكثرة ضدّ المنظمات الخيرية العاملة في غزة. رغم هذا التصنيف، سمحت إسرائيل لقطر الخيرية بتحويل تمويلات إلى غزة في مايو/أيار 2019. حُكم على نجوان عودة، المديرة الإدارية للمنظمة، بالسجن 18 شهرا بسبب انتمائها إلى “جمعية غير مشروعة”، وتحديدا قطر الخيرية، بموجب نظام الدفاع لسنة 1945، ومنعتها لمدة سنة من “ارتكاب نفس المخالفة التي أدينت بها”، وهو منع فعلي لعودتها إلى عملها، كجزء من اتفاق تفاوضي مع السلطات.
لا يحدد القانون العسكري أي إجراءات رسمية للاعتراض على اعتبار أي منظمة غير مشروعة أو على قرارات غلق الشركات. رغم أن الفلسطينيين يستطيعون استئناف القرارات الإدارية المشابهة لدى “المحكمة العليا”، إلا أن هذه الأخيرة أثبتت على امتداد السنوات انحيازا كبيرا إلى مواقف الدولة والجيش.
يستشهد الجيش الإسرائيلي بانتظام أيضا بالتعريف الفضفاض للتحريض في قوانينه العسكرية، الذي يشمل أي “مدح أو مناصرة أو دعم لمنظمة معادية” وكل من “يحاول، إما شفهيا أو بصورة أخرى، التأثير على رأي الجمهور في المنطقة بصورة من الممكن أن تمسّ بسلامة الجمهور أو بالنظام العام”، لتجريم كل تعبير معارض للاحتلال. قالت السلطات الإسرائيلية إنها تراقب عن كثب التعبير على الانترنت، وخاصة على حسابات التواصل الاجتماعي الفلسطينية، واستخدمت خوارزميات استباقية لتحديد من ستستهدفه. لم تكشف السلطات الكثير من المعلومات عن أساليبها في مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها استخدمت منشورات على هذه المواقع لتوجيه تهم تتعلق بالتحريض.
مثلا، في بداية 2018، زعمت النيابة العسكرية في لائحة اتهام موجهة إلى الناشطة ناريمان التميمي أنها “حاولت التأثير على رأي الجمهور في المنطقة بشكل يمسّ سلامة الجمهور أو النظام العام”، ودعت إلى العنف”، وذلك على خلفية نقل مباشر بثته على صفحتها على فيسبوك لمواجهة بين ابنتها عهد التميمي (16 عاما آنذاك) وجنودا إسرائيليين في باحة منزلها في ديسمبر/كانون الأول 2017. تضمنت اللائحة سلسلة من التهم بموجب الأمر العسكري رقم 1651 بالاعتماد بشكل أساسي على البث المباشر، بما في ذلك “التحريض”، مشيرة إلى أن الفيديو “شاهده آلاف المستخدمين، وشاركه العشرات منهم، وتلقى عشرات الردود وعشرات الإعجابات”. راجعت هيومن رايتس ووتش الفيديو وملف القضية، ولم تجد في كل منهما أي دعوة من ناريمان إلى العنف. قالت ناريمان لـ هيومن رايتس ووتش إنها اعترفت بذنب التحريض وبتهمتين أخريين – “المساعدة في الاعتداء على جندي” و”التدخل في عمل جندي” – لتجنب عقوبة أطول في حال أدانها النظام القضائي العسكري، الذي لا يضمن للفلسطينيين محاكمات عادلة. بالاستناد إلى الاتفاق التفاوضي لتخفيف العقوبة، أمضت ناريمان ثمانية أشهر في السجن.
هذه القيود شلّت بشكل خاص الصحفيين الفلسطينيين، الذين يتهمهم الجيش الإسرائيلي بانتظام بالتحريض أو الانتماء إلى حماس. في أواخر يوليو/تموز 2018، اعتقل الجيش الإسرائيلي أربعة صحفيين في “قناة القدس”، وهي محطة تلفزيونية مرخصة في لندن اتهمها وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بأنها “الذراع الدعائية[بروباغندا] لحماس”. كانت السلطات قد منعت القناة من العمل في إسرائيل في وقت سابق من ذلك الشهر، دون أن تعلن عن أي حظر بشأن عملياتها في الضفة الغربية. وافقت المحاكم العسكرية على احتجاز الصحفي علاء الريماوي بينما كانت النيابة العامة تحقق معه في مزاعم انتمائه إلى “جمعية غير مشروعة”، وتحديدا قناة القدس، بموجب نظام الدفاع لسنة 1945. قال الريماوي إن المحققين ركزوا على استخدامه لمصطلح “الشهداء” للإشارة إلى الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل، وهي عبارة رائجة بين الفلسطينيين، بما في ذلك في مقطع اخباري استخدم فيه العبارة للإشارة إلى شخص قُتل بعد أن أطلق النار على مستوطن. أمرت محكمة عسكرية بالإفراج عنه بكفالة بعد ثلاثة أسابيع من الاحتجاز، على خلفية أنه قد لا يكون على علم بالحظر المفروض على القناة لأن الجيش لم ينشر إشعار الحظر كما يلزم. غير أن المحكمة اشترطت الإفراج عنه بمنعه لمدة شهرين ونصف من “نشر أي محتوى على شبكات التواصل الاجتماعي وقنوات الاتصال الأخرى”، مع منعه من مغادرة مدينته رام الله دون موافقة المحكمة، واستمر هذا المنع بحسب الريماوي سنة. ذكر “المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الاعلامية” (مدى) في 2017 و2018 أن الجيش الاسرائيلي اعتقل 74 صحفيا وأغلق 19 مؤسسة اعلامية في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
تؤثر الاعتقالات بسبب ممارسة الحقوق الأساسية سلميا في المجتمع الفلسطيني، وغالبا ما تتسبّب في ردع الآخرين عن التعبير والانخراط في أي نشاط سياسي بشكل عام. قالت صحفية من رام الله، طلبت عدم الكشف عن اسمها لأسباب أمنية، لـ هيومن رايتس ووتش إنها ليس لديها “أدنى فكرة” عمّا يعتبر تحريضا، ما جعلها “خائفة وحذرة جدا مما تكتبه على صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي”. قالت إن الرقابة الذاتية أمر شائع بين الصحفيين والنشطاء، الذين كثيرا ما ينصحون بعضهم البعض بما يتعين عليهم نشره أو عدم نشره.[2] قال حمزة زبيدات، الذي يعمل في منظمة غير حكومية تنموية، إنه كان ينشر كثيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه عمد مؤخرا إلى “عزل نفسه واختار طواعية عدم المشاركة في أي مسألة سياسية عامة أو إبداء أي آراء فيها” خشية الاعتقال.[3] قال رجل (25 عاما) من بيت لحم، طلب أيضا عدم الكشف عن اسمه، إنه كان يشارك كثيرا في المظاهرات والأنشطة السياسية الأخرى، لكنه “قرر مؤخرا تقليص مشاركاته بعد تقييم مخاطر” الاعتقال وغيرها من الاجراءات العقابية التي يعتمدها الجيش الإسرائيلي. قال إنه كلما قرّر المشاركة، صار يحاول أن يكون “كتوما جدا” و”البقاء خلف الكواليس”، واصفا هذا “الحذر الشديد” بالشائع بين الشباب أمثاله.[4]
نفذ الجيش بعض هذه الاعتقالات في منطقة عرّفتها “اتفاقات أوسلو” لسنة 1995 بـ “المنطقة أ” في الضفة الغربية، رغم أن هذه الاتفاقات منحت للسلطة الفلسطينية سيطرة مدنية وأمنية كاملة على هذه المنطقة. تقيّد السلطة الفلسطينية هي الأخرى حقوق الفلسطينيين في المنطقة أ عبر الاعتقالات التعسفية لمنتقديها ومعارضيها، لا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي صفوف الصحفيين المستقلين، في داخل الجامعات، وأثناء المظاهرات.
حتى وإن كان قانون الاحتلال يسمح للجيش بتبرير هذه الاجراءات الواسعة في يوليو/تموز 1967، لا يقدّم هذا القانون أساسا قانونيا للاستمرار في هذه الأفعال بعد أكثر من 50 عاما. يسمح قانون الاحتلال لسلطات الاحتلال بتقييد بعض الحقوق، لكنه يفرض عليها إعادة الحياة العامة للسكان المحتلين. هذا الالتزام يصير أكبر عندما يكون الاحتلال مطولا، حين يحظى المحتل بمزيد من الوقت والفرص لاعتماد استجابة مصممة بدقة لتخفيف القيود على الحقوق عند التعامل مع التهديدات الأمنية. كما تزداد احتياجات السكان المحتلين مع الوقت، إذ أن تعليق جميع الحقوق تقريبا في مجال حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات يعرقل الحياة العامة بشكل مؤقت، ولكن عندما يكون التعليق طويل الأمد وبلا نهاية، يكون تأثيره يكون أفدح. الحرمان من حرية التعبير والنقاش، ومن الوصول إلى مختلف أنواع المعلومات، وفرص المطالبة بالتغيير سلميا ينتج عنه ركود اجتماعي وفكري.
رغم أن إسرائيل عليها التزام كبير بتسهيل الحياة المدنية العادية واحترام الحقوق الأساسية، فإن طول مدة الاحتلال والبيروقراطية المعقدة التي طورتها لحكم الفلسطينيين جعلاها تستمر في استخدام نفس الاجراءات القمعية التي كانت تستخدمها في بداية الاحتلال.
كلما طال أمد الاحتلال، كلما ينبغي أن يكون الحكم العسكري أشبه بنظام حكم إعتيادي الذي يحترم معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان المنطبق في جميع الأوقات. يوفر القانون الدولي لحقوق الإنسان حماية قوية للحقوق المدنية، بما في ذلك حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات، ويفرض “عتبة عالية” على القيود، التي ينصّ على أن تبقى “استثناءً”. وثقت هيومن رايتس ووتش حالات لم تحصل فيها دعوات للعنف، وحالات ساوى فيها الجيش بين معارضة الاحتلال والتحريض على العنف دون أن يثبت أن النشاط التعبيري كان يرمي إلى التسبب بالعنف، أو فُهم من آخرين أنه يعني ذلك.
على الجيش الإسرائيلي إلغاء الأمرين العسكريين رقم 101 ورقم 1651 والكف عن اتهام المدعى عليهم بموجب نظام الدفاع لسنة 1945. بعد 52 عاما من الاحتلال، ينبغي أن تضمن إسرائيل النظام العام والسلامة العامة بطريقة تحترم وتحمي وتنفذ الحقوق الأساسية للفلسطينيين. إسرائيل توفّر حماية أقوى للحقوق بموجب قانونها المدني، المنطبق في القدس الشرقية المحتلة وإسرائيل، وهو ما يؤكد إمكانية اعتماد اجراءات أقل تقييدا.
على الدول والمنظّمات الدولية تسليط الضوء على أهمية احترام الحقوق المدنية للفلسطينيين في الضفة الغربية، فهي تمثل جزءا لا يتجزأ من الإطار القانوني المنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة. يتعيّن عليها أيضا التفكير في إدراج دعوات لحث إسرائيل على منح الفلسطينيين الحقوق المدنية نفسها التي تمنحها لمواطنيها، في المنشورات والتقارير والمواقف السياسية، وفي تقييم سلوك إسرائيل على هذا الأساس. ينبغي استخدام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي للتدقيق في سياسات وممارسات إسرائيل تجاه فلسطينيي الضفة الغربية، بما يشمل القدس الشرقية، وقطاع غزة.
على مدى أكثر من ثلثي الفترة منذ إنشاء دولة إسرائيل، حرمت السلطات الإسرائيلية قرابة 2.5 مليون فلسطيني خاضعين لحكمها في الضفة الغريبة من حقوقهم الأساسية – نفس الحقوق التي يتمتع بها أكثر من 400 ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون في مستوطنات غير شرعية على نفس الأراضي. يتحدث المسؤولون الإسرائيليون علنا عن نيتهم حُكم الفلسطينيين بشكل دائم في الضفة الغربية. مهما كانت الترتيبات السياسية، ليس هناك أي مبرّر للاستمرار في تطبيق هذه القيود والنظام التمييزي المزدوج في الضفة الغربية اليوم.