وجدت دراسة أن 41% من الصحفيات وقعن ضحايا لأحد أشكال التحرش.
نشر أولًا على مركز الخليج لحقوق الإنسان.
تضمد الصحفية (ب.أ)، 30 عاما، منذ أكثر من ستة أشهر حالتها، بعد أن حطمت روحها بضعة رسائل لمتحرش غير عادي، أنهت مهنتها، وركنت بها في زوايا المنزل، بينما يكابد زوجها بمفرده ظروفا اقتصادية تزداد سوءا كل يوم.
تستقر (ب أ) في تمام الساعة الثامنة من صباح كل يوم، بمكتبها في إحدى الصحف المحلية، تربط شعرها، تفتح حواسيبها، تقلب الأخبار، وتكتب مشروع خريطة اليوم الخبرية، ومقترحات المراسلين الميدانيين.
الصحفية “محررة دسك”، على تماس مباشر مع كادر صحيفة مكون من 15 شخصا، 13 منهم ذكورا، تضطر كل يوم تمرير سماجة النمط الذكوري، لكنها ترسم حدودهم معها.
نجحت في إبلاغ مدارك الجميع أن يفصلوا بين متبنياتهم الذكورية، والعمل، وتفهُّم كونها أم لطفلين وزوجة لرجل صالح. ظنت (ب.أ) انها نجحت في كبح جماح الذكورية في المؤسسة.
كم كبير من المجتمع يدرك شيوع ظاهرة التحرش في الشارع، بحكم استفحال الذكورية المفرطة، لكن ما كشفته شهادات عدد من الصحفيات العراقيات، يؤكد تمدد الظاهرة في المؤسسات الصحفية والإعلامية، وأدت لترك عدد غير قليل من الصحفيات المهنة الى الأبد.
41% من الصحفيات تعرضن الى تحرش
يكشف استطلاع رأي اجرته “جمعية الدفاع عن حرية الصحافة” بواسطة فريق باحثين، عن تعرض 41% من الصحفيات العاملات الى تحرش متعدد الانواع والاصناف، 15% منهن اضطررن لترك العمل في المؤسسة، والانتقال لمؤسسات اخرى، بينما 5% منهن غادرن مهنة الإعلام الى الأبد.
وتكشف الدراسة أن محررات الدسك هن الأكثر عرضة للتحرش، ومقدمات البرامج بنسب اقل، وهذا يعود بحسب الدراسة، الى “مكانة مقدمة البرامج الإذاعية والتلفزيونية في المؤسسة، وخوف المتحرش من علاقاتها مع المسؤولين في السلطة.
وكشفت نتائج الاستطلاع أيضاً عن مجالات التخصُّص في العمل الإعلامي وعلاقته بأماكن التحرش، إذ تبين أن المحرِّرة داخل المؤسسات الإعلامية أكثر عرضة للتحرش بنسبة (20.3%)، ومقدمات البرامج بنسبة (11.4%)، يليها العاملات في مجال الإعلام المقروء بنسبة (7.3%).
رئيس يمتهن التحرش
الصحفية (ب .ا)، تعمل في صحيفة بإحدى المحافظات الوسطى، تحدثت بخليط من مشاعر الثأر والغصة والحسرة، ومزيد من الدموع، قائلة إن رسالة مساومة من مدير مؤسستها أنهى مجالها الصحفي للأبد، “طَلب بكل وقاحة، ودون أدنى تردد، أن أكون محظيته ليكون لي مصباح علاء الدين”، تقول (ب.أ).
تجمدت عروق الضحية لدقائق، وكادت “الصعقة” تحدث خللا صحيا، شعرت بالدوار والإعياء.
وتضيف (ب.أ) “مضمون رسالته كان طلب إقامة علاقة سرية معي، تحمل في طياتها تهديدا وترغيبا بوقت واحد، وتتضمن كلمات خادشة للحياء، وشيئا من الفحش، مصحوبة بمقطع لأغنية رومانسية”.
من هول الصدمة انتظرت فترة طويلة، لترده بطريقة مؤدبة، وترفض عرضه.
حاولت استيعاب ما يحدث، فكيف ستبلغ زوجها؟، ما عساه ان يفعل مع مالك الصحيفة النافذ؟ ربما سيلقي بزوجها في السجن بحكم علاقاته ونفوذه في مؤسسات السلطة الأمنية؟ وعصفت في دماغها عشرات الأسئلة الأخرى.
راودها شك بطبيعة تصرفاتها في داخل المؤسسة، إن كان بدر منها بشكل عفوي شيئا ما، جعله ينظر لها كـ”عاهر”؟ هل كانت ملابسها فاضحة؟
سارعت صوب دولاب ملابسها، تفحصت كل ما ارتدته، لم يكن شيئا خاطئا.
في محاولة إقناع الذات ومخادعة الواقع، بنت اعتقادا داخليا مفاده أن الرجل، الذي شارف على الستين عاما، حاول اختبارها حفاظا على عمل الصحيفة، وإبعاد الكادر من المشاكل، ثم استذكرت أنه كان لا يفوت فروض الصلاة في مكتبه.
وتشير الى أن وصولها لمبنى الصحيفة تحول لفصل من العذاب النفسي، وهي تحاول تجنب نظراته المريبة، فاضطرت الى التذرع بالمرض، والتغيب لفترة طويلة، موضحة “كنت أعتقد أن غيبتي الطويلة ستنسيه أو تعزز له رفضي أسلوبه الفج”.
مع عودتها للعمل، حرصت على ارتداء الثياب الفضفاضة، لكن “العجوز” أصبح أكثر جسارة، فوضع كاميرا مراقبة فوق مكتبها، لممارسة الضغط عليها، بعد أن حرمها من الإجازات، بما فيها الطارئة.
قررنا الدخول الى المؤسسة، وتسللنا الى مكتب الضحية السابق، فلم نجد أي كاميرات مراقبة داخل أو خارج المؤسسة، لإثبات واقعة التحرش، على الرغم من كونه استعرض في العديد من المناسبات، فيديوات مفبركة لعملية اقتحام المؤسسة التي يرأسها، وادعى أنها لجماعات إرهابية حاولت ابتزازه.
وتبين (ب. أ)، أن “الرئيس يمتهن التحرش، ويستقوي بأحد كبار المسؤولين من أحزاب السلطة التي تملك فصيلا مسلحا، فكان يرفع صوته أثناء مكالماته مع أحد قادة المليشيات، أو أحد مسؤولي السلطة فيًسمع من حوله، ليشاع في أرجاء الكادر أنه على علاقة بالمليشيات والسلطة، بقصد ترهيب المستمعين حوله”.
أدركت الضحية، أن “المشوه” بات يعتقد أنها سترضخ خوفا، فلم يكن أمامها إلا ترك العمل.
تحتفظ الضحية بصور لرسائله، وتعرب عن أملها بفضحه بالأدلة يوما ما، انتصارا لكل ضحايا التحرش.
خسرت (ب.أ) مستقبلها المهني ليس بسبب المجتمع الذكوري، إنما بسبب نفوذ مدير المؤسسة، وعلاقاته التي يعتقد أنها ستحميه من كل خروقاته القانونية والأخلاقية.
الإنسحاب .. مصير الدعاوى القضائية ضد متحرش
تبدو أساليب المتحرشين بالعاملات في وسائل الاعلام المحلية متشابهة، وتبدأ من قالب المحادثات عبر تطبيقات الهواتف الذكية، وفي ساعات الليل.
وصفت الصحفية (ن. ع)، 34 عاما، التي استقالت قبل 4 سنوات من نفس المؤسسة الاعلامية، المدير بـ “المتحرش الذي يمتهن الصحافة فقط من أجل مساومة الصحفيات”، منوهة الى أنها تعرضت للتحرش بشكل مزعج لعدة مرات من مدير مؤسستها، وحاولت اللجوء الى القانون لـ”تأديبه”، وأقدمت على توكيل محام لإقامة دعوى قضائية ضد المتحرش.
وتبين: “بعد أن علم بتحركاتي لجمع الأدلة والبراهين لتعزيز القضية ورفعها الى إحدى المحاكم العراقية، بدأ بالتهديد والوعيد”، إحدى وسائل التهديد، كانت التلويح بإصدار كتاب فصلها يحمل عنوان “فصل لسوء سلوكها وسمعتها بالمؤسسة”، وإرساله الى زوجها، وهو جرم آخر يحاسب عليه القانون العراقي بالسجن مدة ثلاثة أشهر الى سنتين للطعن بالشرف.
إكتفت (ن.ع) بترك العمل، وأردفت قائلة “أتمنى أن يسقط هذا المتحرش، انتصارا للعمل الصحفي الذي أؤمن به، فهو ليس سوى دخيلا عليه”.
حاولنا استطلاع آراء العديد من الزملاء الصحفيين الذين عملوا في المؤسسة التي عملت بها (ن.ع)، وأكدوا أن “المدير المتحرش ارتكب جرائم تحرش أخرى بصحفيات أخريات، ولا يترك خلفه أي مستمسك جرمي يثبت تحرشه بهن، باستثناء رسائل المحادثات التي لا يمكن إعتبارها دليلا في الغالب، وهو يعلم ذلك”.
تجريم الضحية
تصف الصحفية (ا.ج)، 41 عاما، عملية الابتزاز والمساومة للصحفيات من قبل رؤساء وسائل الاعلام بالـ”ظاهرة”، أدت لعزوف العديد من الصحفيات الناجحات عن مواصلة المهنة، واللجوء الى الوظائف الحكومية أو الأعمال الإدارية والفنية في القطاع الخاص، وترك مهنة الصحافة للأبد.
تكشف (أ.ج) عن تعرضها للمساومة والابتزاز من قبل مدير غرفة الإخبار، في إحدى الفضائيات العراقية؛ وبعد رفضها إقامة علاقة غير شرعية معه قام بطردها من المؤسسة عندما قام برفع تقرير لرئيس المؤسسة متهما إياها بالتقصير والإهمال، مما أدى الى إقالتها، دون الحصول على أجورها المتبقية حتى.
شبكة الإعلام العراقي تكافح الظاهرة
تحدثت مديرة قسم تمكين المرأة في شبكة الاعلام العراقي (د.إسراء العطار) عن آليات يتبعها القسم للحد من ظاهرة التحرش ومساومة الإعلاميات والصحفيات داخل المؤسسات الإعلامية وخارجها، وهي التوعية القانونية والاجتماعية والنفسية من خلال إقامة ورش تدريبية تستهدف العاملات في الشبكة، لتجاوز مسألة الوصمة المجتمعية للمرأة المتعرضة للتحرش، وتمكينها للدفاع عن حقها بالطرق القانونية.
وبينت العطار أن كل اقسام الشبكة تتضمن دوائر قانونية، تقدم الخدمات لكل من تتعرض الى التحرش، مضيفة أن هذه الدوائر لم تسجل الى الآن هكذا شكاوى من النساء العاملات في الشبكة.
من جهتها قالت المحامية ليلى مجاهد، إن “أغلب قضايا التحرش تسوّف لأن من يتعرضن له يمتنعن عن إقامة دعاوى قضائية بحق المتحرشين”، موضحة، أن “القانون دائما ما يضمن الحماية اللازمة لكل من يستخدمه بطريقة صحيحة دون تخوف”.
قوانين غير عاملة
يطالب المحامي صفاء اللامي باستحداث قانون لحماية النساء العاملات في مختلف القطاعات، و”كبح جماح النظام الحامي للمتحرشين”
ويقول اللامي إن “القانون فرض عقوبة على المتحرشين وباكثر من مادة، ولكنه ليس كافيا”، مشيرا الى تطبيق قوانين صارمة بحق المتحرشين في إقليم كردستان، حدت من ظاهرة التحرش بشكل كبير.
قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، بمادتيه (402) و(369)، يعاقب بالحبس مدة لاتزيد عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن 50 ألف دينار، ولا تزيد، عن 200 ألف دينار، على المتحرش.
الخوف يطارد الضحية
تضطر الضحية الى التنازل عن حقها في الكثير من الحالات، بحكم الظروف الاجتماعية والعادات والتقاليد في العراق، اذ يشير المحامي صفاء اللامي الى أن “المتعرضات للتحرش يطلبن الاستشارة القانونية إلا انهن يمتنعن عن اقامة شكوى قضائية، بسبب عدم ثقتهن بالقانون، لسوء تعزيزه والرتابة في تطبيقه”، معزيا ذلك الى العرف الاجتماعي، والتخوف من ردة فعل ذويها، وتطور الخلاف الى الأنماط العشائرية السائدة”.
فيما يؤكد مدير إعلام الشرطة المجتمعية العميد غالب العطية، أن “وزارة الداخلية تتلقى عبر الرقم السري المخصص لاستقبال الشكاوى، حالات تحرش عديدة، أبرزها التحرش اللفظي والجسدي، وأكثر حالات التحرش تكون عبر تطبيقات المحادثات، ووسائل التواصل الاجتماعي.
ويقول العطية إن “الشرطة المجتمعية أشرت وجود تجاوزات عديدة على الصحفيات والإعلاميات”، موضحا أن “المشتكيات يكتفين بطلب توقيع المتحرش على تعهد بعدم تكرار هذا الفعل دون تقديم شكوى قضائية”.
الباحثة الاجتماعية سارة جاسم، تشجع على “ضرورة رفع دعوى قضائية على المتحرش الجاني، لتحقيق حالات ردع اجتماعية، لمنع تفشي الظاهرة”، مضيفة، أن “أغلب الضحايا من الصحفيات يرفضن ذلك بسبب تخوفهن من الإقصاء الاجتماعي أو الفضيحة أو تشويه السمعة، خاصة وأن البيئة المجتمعية العراقية تضع كامل اللوم على المرأة العاملة، وتبرر للمتحرش جريمته.
محاولات خجولة لمكافحة التحرش
قبل أسابيع قليلة، انهمرت منشورات نسوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي في “حملة الـ 16 يوما لمناهضة العنف الاسري في العراق”، وكان جزءا منها يخص مفهوم التحرش، الذي يؤدي الى تقلص مساحة ودور المرأة في العديد من مجالات العمل.
لكنها تبقى حملات إلكترونية، لن تؤثر كثيرا في الحد من ظاهرة التحرش في بيئات العمل، ولا تشكل رادعا إزاء مرتكبي حالات التحرش، كما أنها لا تحمي الصحفيات المتعرضات الى التحرش والإبتزاز والمساومة، لا سيما ممن اضطررن لترك المهنة.
أُنجِز هذا التحقيق بدعم من مركز الخليج لحقوق الانسان في إطار مشروع التحقيق في قضايا الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.