استخدمت السلطات قانون الجرائم الإلكترونية لقمع حرية التعبير للمواطنين، كما شنت حملة اعتقالات استهدفت الناشطين.
نشر أولًا على سمكس.
خلال الأشهر القليلة الماضية، أثير مجددًا الجدل المحموم حول مدى قدرة القانون على تحقيق التوازن بين حماية الأمن الإلكتروني للأردنيين/ات، وضمان حقهم/ن في التعبير في الوقت عينه، بُعيد بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والمظاهرات ضد هذا العدوان في الأردن.
وقد اتخذت السلطات الأردنية منحى مقلقًا تمثّل باستخدام قانون الجرائم الإلكترونية كأداة للتضييق على حرية المواطنين/ات في التعبير، وذلك من خلال حملات اعتقالات واسعة استهدفت النشطاء السياسيين/ات بشكلٍ خاص.
في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أكّد رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة عدم اعتقال أو توقيف أي شخص مارس حقه في التعبير السلمي عن التضامن مع الأهل في غزة. بعد شهرين فقط من التصريح، نشر “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان”، وهو منظمة مستقلة مقرّها جنيف، تفاصيل حملة اعتقالاتٍ ممنهجة لنشطاء سياسيين/ات بسبب تعليقاتهم/ن العلنية، وقيادة حملات تضامن مع الغزّيين/ات على مواقع التواصل، بذريعة تطبيق قانون الجرائم الإلكترونية الذي أقره البرلمان في آب/أغسطس الماضي.
اعتقالات غير قانونيّة
من دون أيّ معطياتٍ كافية أو أسباب واضحة، اعتقل الناشط السياسي الأردني خالد الناطور في 8 شباط/فبراير الماضي، على خلفية تغريدة نشرها قبل فترة عبر منصّة ” إكس”، انتقد فيها قرارات صنّاع القرار الأردنيين، ومن بينها إنشاء الجسر البرّي الذي يصدّر عبره الأردن الخضروات والفواكه للاحتلال.
في حديثٍ مع “سمكس”، يقول الناطور إنّ “الأمن الوقائي تواصل مع أخي لترتيب موعد مراجعة معي. لم أفهم حينها طبيعة أو سبب المراجعة، ولكنهم أخبروني أنّ الموضوع متعلق بسيارتي، وتفاجأت بشروعهم بالقبض عليّ فور حضوري إلى الموعد، وإعلامي بأنني مطلوب في قضية جرائم إلكترونية”.
“أنا مدركٌ تمامًا أنّ ما كتبته لا يعدّ جرمًا، وأنّه يندرج تحت عنوان حرية الرأي التي كفلها الدستور، وبالفعل، كان تعليلهم (أي الأمن الوقائي) أنّ المنشور غير لائق، على الرغم من أنّ التهمة التي وجّهت إليّ كانت استخدام وادارة مواقع وصفحات إلكترونية لإثارة النعرات وتهديد السلم المجتمعي ونشر الأخبار الكاذبة، خلافًا للمادتين 15 و 17 من القانون”، يضيف الناطور لـ”سمكس”.
وبحسب المادة 15 من قانون الجرائم الإلكترونية، “يعاقب كل من قام قصدًا بإرسال أو إعادة إرسال أو نشر بيانات أو معلومات عن طريق الشبكة المعلوماتية أو نظام المعلومات أو الموقع الإلكتروني أو منصات التواصل الاجتماعي تنطوي على أخبار كاذبة تستهدف الأمن الوطني والسلم المجتمعي […]”، فيما تنصّ المادة 17 على أن “يعاقب كل من قام قصدًا باستخدام الشبكة المعلوماتية أو تنقية المعلومات أو نظام المعلومات أو موقع إلكتروني أو منصة تواصل اجتماعي لنشر ما من شأنه إثارة الفتنة أو النعرات أو تستهدف السلم المجتمعي أو الحض على الكراهية أو الدعوة إلى العنف أو تبريره أو ازدراء الأديان”.
أي بمعنى آخر، يختلف السبب الذي أعلم الناطور به شفهيًا عن التهمة التي ألحقت بها فعليًا.
وأما عن الحكم النهائي في قضيته بعد احتجازه لـ8 أيام والتنقل من مكانٍ إلى آخر، يشير الناطور لـ”سمكس” إلى أنّ قاضي محكمة جزاء عمان حكم له بإخلاء عدم المسؤولية، وأنه غير مذنب وما كتبه يندرج تحت عنوان حرية الرأي التي يكفلها الدستور الأردني في المادة 15. علاوة على ذلك، يعدّ هذا الحكم تاريخيًا، إذ أنه يصدر للمرة الأولى منذ إقرار قانون الجرائم الإلكترونية الأردني، ليكون الناطور أول أردنيّ ينال حكم إخلاء مسؤولية في قضية رأي، بحسب عضو لجنة الحريات في نقابة المحامين الأردنيين، المحامي بهاء الدين العتلة، في تصريحٍ لـ”سمكس”.
لكن قضية خالد لم تنته بإخلاء عدم المسؤولية، إذ استأنف النائب العام الحكم، وجرى اعتقال الناطور مجددًا، وحُكم عليه بدفع غرامة مالية قدرها 5 آلاف دينار أردني (حوالى 7 آلاف دولار أميركي)، بحسب العتلة.
وتنصّ المادة 15 من الدستور الأردني على أن “تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون”.
لا تختلف قصة محمود (اسم مستعار ارتأى صاحب العلاقة استخدامه حفاظًا على سلامته الشخصية) عن قصة الناطور، إذ ما زالت محاكمته مستمرّة حتى اليوم بتهمة إثارة النعرات، استنادًا على المادتين 15 و17 من قانون الجرائم الإلكترونية.
ويقول محمود في مقابلةٍ مع “سمكس” إنّ “المنشورات التي أحاكم بسببها نُشرت عبر عدة حسابات، وليست كلّها تابعة لي. لا يوجد أيّ مخالفة صريحة، إذ لم تتعدّ منشوراتي كونها انتقادات سياسية عامة، بعيدًا عن ذكر أي شخصٍ أو دولة. حتّى أنّ إحدى التغريدات كانت عبارة عن أبياتٍ شعريّة”.
“ما جرى هو محاولة لتخويفي وإيقافي عن الكتابة عن بعض الملفات السياسية، كما طُلب مني بشكلٍ غير مباشر بالتوقف عن دعم المقاومة وانتقاد بعض الإجراءات الحكومية مثل الجسر البري، وذلك من خلال إحالتي للقضاء دون وجود أدلة كافية لتجريمي أو إدانتي”، يكمل حديثه لـ”سمكس”.
تكتيكات اعتقال غير شرعيّة
يمثل محمود أمام القضاء بسبب تغريداتٍ انتقد فيها سياسة الحكومة الأردنية في ما يخصّ العدوان على غزة، وذلك بعد أنّ اعتُفل بطريقة غير قانونية، ودون مذكّرة عتقال، وإنما من خلال احتجاز أحد أفراد أسرته لإجباره على تسليم نفسه، كما كشف محمود لـ”سمكس” أنّ بعض معتقلي الرأي يقبعون في السجون الأردنية من أكثر من 80 يومًا.
في هذا السياق، يقول العتلة في مقابلة مع “سمكس” إنّ احتجاز الأمن العام أحد أفراد أسر معتقلي الرأي في المراكز الأمنية يتمّ بطرقٍ غير قانونيّة، مما يكشف نية الأمن ممارسة نوعٍ من الضغط النفسي على الناشطين/ات.
بحسب العتلة، تتعارض آلية الاحتجاز هذه مع المواد 108 و113 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، اللتان تحظران التوقيف لعدة ساعات دون وجود مبرر قانوني، بالإضافة إلى وجود المشتكى عليه موقوف أو محتجز لدى المركز الأمني، وهي شروطٌ لم تتوفّر في أيّ من هذه الحالات.
علاوة على ما سبق، يُفيد العتلة بأنّ التوقيف غير المشروع يتعارض مع القواعد الاستثنائية المنصوص عليها في المادة 114 من القانون نفسه، إذ يجب أن يقع التوقيف يحق المُشتكى عليهم بالجريمة، وشركاؤهم للتحقيق معهم، موضحًا لـ”سمكس” أنّه لم يتم التحقيق مع أسر المعتقلين، ولا إدراج أسمائهم كمشتكى عليهم، مما يدل على أن الهدف من احتجازهم داخل المراكز الأمنية هو الضغط لا أكثر.
يخالف هذا الإجراء أيضًا قانون العقوبات الأردني الذي تنصّ المادة 346 منه، والمتعلّقة بـ”حرمان الحرية”، على أنّ “كلّ من قبض على شخص وحرمه حريته بوجه غير مشروع، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تزيد على خمسين دينارًا، وإذا كان قد حجزه بادعائه زورًا- بأنه يشغل وظيفة رسمية أو بانه يحمل مذكرة قانونية بالقبض عليه- يعاقب بالحبس مدة ستة أشهر إلى سنتين […]”.
الثمن الباهظ: كلفة نفسيّة واجتماعية
يتعدّى الثمن الذي يدفعه معتقلو الرأي في الأردن الغرامات المالية التي يدفعونها وحريتهم التي يخسرونها لأيام أو لشهورٍ حتى، إذ يترك الاعتقال آثارًا نفسية واجتماعية على ضحايا هذه القوانين.
وعن حدّة هذا التأثير، يوضح محمود أنّ المحاكمة والاعتقال أثرا بشكل مباشر عليه، ووضعته تحت وطأة الرقابة الذاتية، وأصبحت كتاباته “أقل حدة” حتى ولو لم تكن مخالفة للقانون، وبات ينتقي كلماته بعناية خوفًا من إثارة غضب شرطيٍّ أو مسؤول: “يُقلقني أن يُستخدم القانون في الأردن لقمع أي حراك سياسي حر، من خلال إرسال السلطة رسائل رادعة للناشطين عبر استهدافهم واعتقالهم”.
وأخيرًا، يُضيف محمود لـ”سمكس” أنّه وفي كل مرة يُحاسب فيها ناشطٌ سياسي بموجب هذا القانون، هناك جيش من الذباب الإلكتروني يعمل على تشويه سمعته/ها عبر مواقع التواصل، ونسب مواقف سياسية إليه/ا زورًا.
لا معايير واضحة في قانون الجرائم الإلكترونية
نظرًا لغياب معايير واضحة في قانون الجرائم الإلكترونية للفصل بين حرية الرأي ومصطلح “الجريمة الإلكترونيّة”، تصدر الأحكام والقرارات النهائيّة بالاعتماد على رأي وحدة الجرائم الإلكترونية، والدوريات التي تُجريها، بالإضافة إلى قناعة وتكييف قاضي الموضوع والمدعي العام، بحسب العتلة.
وبسبب استخدام مواد القانون للتضييق على حرية التعبير، يُوضح العتلة لـ”سمكس” أنّ التركيز في المحاكمات ينصب على المادتين 15 و17، اللتين وصفهما بـ “الفضفاضتين” و”تحتملان جميع السياقات التي يمكن التجريم على أساسها وفقاَ لقناعة القاضي”، يؤكّد لـ”سمكس”.
من جهة أخرى، يبين العتلة أنّ الموقوفين أجبروا على توقيع تعهداتٍ عند الحاكم الإداري بعدم المشاركة في مظاهرات مرة أخرى، بالإضافة إلى إجبارهم/ن على توقيع دفع كفالاتٍ مالية بقيمة 50 ألف دينار أردني.
من جهتها، توافق المحامية والحقوقية لين الخياط مع العتلة، وتؤكّد لـ”سمكس” أنّ قانون الجرائم الإلكترونية تشوبه العديد من الإشكاليات التشريعية التي تجعل منه وسيلة لتقييد حرية التعبير، مضيفة أن هذه المشكلات ترجع إلى النصوص الفضفاضة في القانون، التي تحوّل ممارسة حرية التعبير عن الرأي في المساحات المخصصة إلى جرائم يُحاسب عليها الناس، نتيجة لعدم التوازن بين العقوبة والفعل.
أنشأت مديرية الأمن العام في إدارة البحث الجنائي عام 2008 “قسم الجرائم الإلكترونية”، وغيّرت اسمه عام 2015 ليصبح “وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية”، وفي العام نفسه صدر قانون الجرائم الإلكترونية، وأجريت عليه تعديلات العام الماضي.
بعد مرور أقلّ من سنة على إقرار قانون الجرائم الإلكترونية، بدأت نتائجه الكارثية تظهر في البلاد من خلال الاعتقالات المتكرّرة، وغير القانونية للصحافيين/ات والناشطين/ات، واتهامهم/ن بـ”جرائم” لا علاقة لهم/ن بها، واقتياد ذويهم/ن إلى التحقيق للضغط عليهم/ن. أما على المدى الطويل، فقد يساهم هذا الواقع بتطوير نمطٍ من الرقابة الذاتية عند الأردنيين/ات، ما من شأنه التأسيس إلى جوٍّ عام طاردٍ للحريات وتراجع تصنيفات البلاد وتقدّمها على كافّة الصعد.
في ظل حملة الاعتقالات، طالبت “منظمة العفو الدولية” السلطات الأردنيّة بإيقاف حملة القمع التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر 2023، إذ اعتُقل ما لا يقل عن ألف1000 شخص من المتظاهرين والمارّة خلال الاحتجاجات المؤيدة لغزة في العاصمة الأردنية عمَّان في غضون شهر واحد بين تشرين الأول/أكتوبر تشرين الثاني/نوفمبر 2023.
واعتُقل ما لا يقلّ عن خمسة أشخاص بين نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2023، ووُجّهت إليهم تُهم بموجب قانون الجرائم الإلكترونية بسبب منشوراتٍ شاركوها عبر وسائل التواصل، وعبّروا فيها عن مشاعر مؤيدة للفلسطينيين/ات، أو تنتقد معاهدات السلام أو الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمتها السلطات مع الاحتلال، أو تدعو إلى إضرابات عامة واحتجاجات.
يُشار إلى أنّ نقابة المحامين الأردنيين لا تملك أيّ إحصاءات دقيقة حول عدد المعتقلين على خلفية قانون الجرائم الإلكترونية في أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة.