نسبة إلى جماعات حقوقية، إن السلطات التي تتنافس من أجل السيطرة على البلاد تتشارك بالهدف المتمثل في القضاء على الأصوات الناقدة والمستقلة، وخلق بيئة من الخوف والترهيب.
تم نشر ها البيان أولاً على موقع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بتاريخ 12 ايار 2022
على مدى الشهور الماضية، شنت المؤسسات الأمنية والجماعات المسلحة في جميع أنحاء ليبيا حملة شرسة ضد حرية التعبير وتكوين الجمعيات، مستهدفةً المجتمع المدني المستقل بشكل خاص. ويتولى زمام القيادة في هذه الحملة، جهاز الأمن الداخلي في طرابلس، تحديدًا الأفراد المنتمون للتيار الديني السلفي المدخلي، مستعينين بقوانين عهد القذافي وادعاءات الامتثال للقيم الأخلاقية والدينية. وبدلا من أن تتصدى مفوضية المجتمع المدني في ليبيا لهذه الهجمات، دعمت المفوضية هذه الممارسات القمعية التي تستهدف إرهاب المجتمع المدني المستقل.
تأتي هذه الحملة الشرسة ضمن خطة منهجية واسعة النطاق لقمع ومراقبة حرية التعبير وتكوين الجمعيات في ليبيا؛ تستهدف في المقام الأول إسكات المنظمات الحقوقية المستقلة وعرقلة عمل المدافعين عن حقوق الإنسان من داخل ليبيا أو من خارجها. إذ تشير الاتهامات غير المشروعة، والعقوبات غير المتناسبة، التي تصل حد الإعدام، الموجهة بحق المدافعين المحتجزين إلى الهدف الأساسي من هذه الحملة، والذي يتمثل في التشهير بالنشطاء السلميين وترهيبهم والانتقام منهم.
فبينما تواصل السلطات الأمنية الليبية في شرق ليبيا وغربها التنافس للسيطرة على البلاد، تتفق مقاصدهم في القضاء على الأصوات الناقدة والمستقلة، وتعزيز مناخ الخوف والترهيب، على نحو يهدد العملية السياسية القائمة، ويطعن في شرعية أية انتخابات مقبلة.
في هذا السياق، ندعو -نحن المنظمات الحقوقية الموقعة على هذا البيان- المجتمع الدولي لإدانة هذه التطورات المقلقة، والضغط على السلطات في شرق ليبيا وغربها، للوقف الفوري لهذه الهجمات والانتهاكات بحق المجتمع المدني. كما نؤكد أن احترام الحريات الأساسية وسيادة القانون يمثلان أولوية قصوى قبل الانخراط في أية عملية انتخابية ذات مصداقية، فضلاً عن ضرورة ضمان قدرة منظمات المجتمع المدني والنشطاء والصحفيين على ممارسة عملهم دون أي قيود أو مخاوف. ونشدد في السياق نفسه على أهمية تجديد ولاية بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق خلال الجلسة المقبلة لمجلس حقوق الإنسان، والمقرر انعقادها في يونيو القادم؛ وذلك لما لها من دور فعال في فضح الانتهاكات التي تحول دون تحقيق تطلعات الشعب الليبي إلى السلام والديمقراطية، إلى جانب دورها في ردع ارتكاب المزيد من الانتهاكات من خلال تعزيز آليات المساءلة.
الخلفية
على مدار الفترة بين نوفمبر 2021 ومارس 2022، اعتقل جهاز الأمن الداخلي في طرابلس 7 أفراد على الأقل، بينهم مدافعين عن حقوق الإنسان، فيما عُرف باسم «قضية تنوير». ووجهت السلطات للمعتقلين اتهامات بنشر قيم «غير أخلاقية» داخل المجتمع الليبي، الأمر الذي أشعل خطاب كراهية والتشهير والتحريض على العنف بحقهم وبحق المجتمع المدني ككل عبر الأنترنت.
ففي 10 مارس 2022، أعلن جهاز الأمن الداخلي عن “مؤامرة ضد ليبيا”، نظمها هؤلاء الأفراد المعتقلون ومنظماتهم، بالتعاون مع المجتمع الدولي. ولاحقًا في 26 مارس، أصدر مكتب النائب العام في طرابلس بيانًا أكد فيه شروع جهاز الأمن الداخلي بالتحقيق مع أعضاء حركة تنوير، وملاحقتهم بتهم «الترويج للإلحاد» و«محاولة تدمير أحد البنى الأساسية للنظام الاجتماعي». ومنذ ذلك الحين، خضع ما لا يقل عن 6 معتقلين للتحقيق، وواجهوا اتهامات -بمقتضى المادة 207 من قانون العقوبات- تصل عقوباتها حد الإعدام. وبحسب إفادات، هم محتجزين حاليًا في معتقل معيتيقة، والذي تديره قوة الردع الخاصة.
في الوقت نفسه، تزامنت هذه الحملة التحريضية ضد المجتمع المدني مع خطاب ديني تشهيري يشوه المجتمع المدني والنشاط النسوي؛ ففي 24 مارس، أمرت وزارة الشئون الدينية بحكومة الوحدة الوطنية أئمة المساجد، في جميع أنحاء ليبيا، بالتطرق لـ «مخاطر الإلحاد» في خُطب الجمعة، والتي تضمنت إساءات لأعضاء المجتمع المدني والنشطاء، متهمةً إياهم بالإلحاد ومعارضة الدين.
في سياق متصل، أعلنت مفوضية المجتمع المدني بطرابلس عن تأييدها لهذه الحملة؛ إذ أصدرت في 27 مارس بيانًا تؤكد فيه دعمها الكامل لحملة الاعتقالات، واصفةً حركة تنوير بأنها منظمة غير مشروعة تعمل ضد «قيم المجتمع الليبي المسلم المحافظ». وفي تناقض مباشر مع المعايير الدولية المتعلقة بحرية تكوين الجمعيات، تبنت المفوضية في بيانها مصطلحات إشكالية فضفاضة، مبررة هذه الهجمة، منها أن «أمن المجتمع» هو جزء لا يتجزأ من مهام المجتمع المدني الليبي، وأن «المجتمع المدني يخضع لرؤية ثقافية أكثر منه لقوانين جامدة».
في اليوم نفسه، أصدرت مفوضية المجتمع المدني إعلانًا بتعليق عملية التسجيل، وهو ما يعني فعليًا تعليق عمل جميع المنظمات غير الخاضعة للمرسوم 286، وبالتالي أصبحت هذه المنظمات كيانات غير شرعية، يواجه أعضاؤها عقوبة الإعدام بموجب المادة 206 من قانون العقوبات.
لاحقًا، في 29 مارس، أصدرت مفوضية المجتمع المدني في بنغازي تعميمًا يطالب جميع المنظمات المسجلة بإعادة التسجيل، وإلا سيتم «تجميد نشاطها». وفي 6 أبريل، أصدرت المفوضية تعميمًا جديدًا يحظر على النشطاء والمنظمات قبول دعوات المشاركة في التدريبات أو الفعاليات، أو التفاعل بأي طريقة أخرى مع المنظمات الدولية، دون موافقتها. ومن الجدير بالذكر أن المفوضية تتواصل مع المؤسسات الأمنية، ومن بينها أعضاء الجماعات المسلحة، قبل منح هذه الموافقة، الأمر الذي ينطوي على مخاطر متعددة.
ويعد المرسوم 286 بشأن تنظيم المجتمع المدني غير قانوني ويقمع حق المجتمع المدني في التأسيس والعمل بحرية، وهو الحق المضمون بموجب المادة 22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ويجبر المرسوم المنظمات العاملة على إعادة التسجيل مهددًا إياها بالحل. ويلاحظ أنه منذ أكتوبر 2020، تُجبَر المنظمات، لإتمام عملية التسجيل، على توقيع تعهد بعدم التواصل مع أي سفارة أو كيان دولي دون إذن مسبق من السلطات التنفيذية. وهو الأمر الذي تبناه أيضَا وأكد عليه التعميم الصادر في 6 أبريل.
في سياق متصل، وإلى جانب الاعتداءات على حرية التعبير وتكوين الجمعيات، يحتجز جهاز الأمن الداخلي في شرق ليبيا، التابع للقيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، ما لا يقل عن 11 متظاهرًا سلميًا وصحفيًا، تم اعتقالهم في سرت في الفترة بين 19 و26 مارس 2022. وطبقًا لإفادات من حقوقيين ليبيين، لا يزال مكان احتجازهم مجهولًا. وكان المعتقلون قد شاركوا في 19 مارس، في مظاهرة تندد بالانتهاكات المرتكبة أثناء تدخل الناتو في سرت عام 2011، وتطالب بالتعويض. من ضمن المعتقلين، مسئول ببلدية سرت، تم اعتقاله في 19 مارس في أعقاب مشاركته في لقاء مع رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية. والصحفي على الرفاوي، الذي تم اعتقاله في 26 مارس، على خلفية ممارسته لعمله في تغطية المظاهرة.
إن الصياغات الغامضة والفضفاضة لقانون العقوبات الليبي، على سبيل المثال المادتين 206 و207، تنتهك الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها ليبيا، وخاصةً المواد 6 و7 و15 و19 و21 و22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. فكما سبق وأوضح التعليق العام رقم 10 للجنة حقوق الإنسان، تُعد حرية الرأي، بموجب المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حق لا ينبغي تقييده أو وضع أي استثناء له. ووفقًا للتعليق العام رقم 22، فإن حقيقة أن الدين معترف به كدين للدولة أو أن الدين رسمي أو تقليدي أو أن أتباعه يشكلون غالبية السكان، يجب ألا يؤدي للمساس بأي من الحقوق المنصوص عليها في العهد، بما في ذلك حرية الفكر والضمير بموجب المادة 18.