يشكل القانون القمعي تهديدًا لعمل عشرات الجمعيات والمنظمات الليبية، والدولية، والإغاثية العاملة في البلاد.
نشر أولًا على مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
مركز القاهرة يستنكر تقاعس مجلس النواب الليبي عن الامتثال للنص الدستوري وإصدار قانون جديد يضمن حرية واستقلال العمل الأهلي والاكتفاء باقتراح تعديلات شكلية على قانون قمعي باطل
في 21 مارس الجاري، أصدرت حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد دبيبة منشورًا (رقم7/2023) يسمح للجمعيات المحلية والدولية في ليبيا بمواصلة عملها مؤقتًا، ويقر بشرعيتها (المؤقتة) لحين(تصحيح)أوضاعها وفق قانون 19/2001 القمعي لتنظيم الجمعيات، وذلك دحضًا لما ورد في التعميم العام رقم 5803 الصادر في 13 مارس، عن إدارة التعاون الخارجي بحكومة طرابلس، والذي أقر بعدم شرعية جميع الجمعيات الوطنية والدولية العاملة في ليبيا؛ المسجلة بعد عام 2011.
ورغم رفض مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان البالغ لما ورد في التعميم العام 5803 بشأن العصف بشرعية المنظمات والجمعيات الليبية والدولية العاملة في ليبيا منذ أكثر من عقد؛ إلا أنه يعتبر الاحتكام لقانون 19/2001، الباطل والقمعي، لا يقل خطورة ويستوجب الرفض نفسه. وبالمثل يستنكر المركز أية مساعي لإدخال تعديلات شكلية لا جدوى منها على هذا القانون، الذي يتعارض مع الإعلان الدستوري الصادر في 2011 (المادة 15)، والباطل بموجب قانون 29 لسنة 2013 (المادة 6) الذي ألغى كافة القوانين القمعية الصادرة قبل 2011. هذا بالإضافة إلى تعارضه مع مبادئ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (صدقت عليه ليبيا 1970) ومن ثم، ينطبق عليه ما ورد في الطعن الدستوري 57/01 الصادر في ديسمبر 2013 والذي أقر بتفوق الاتفاقية الدولية على القانون الوطني، وأنه “في حالة التناقض بين القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، يجب تطبيق أحدث (اتفاقية دولية) ذات صلة مصدق عليها من السلطات الليبية أمام المحاكم الوطنية.”
صدر قانون 19/2001 في عهد نظام القذافي، وأقره مؤتمر الشعب العام. وهو قانون لا يعترف إلا بالجمعيات التي تقدم خدمات اجتماعية أو ثقافية أو رياضية أو خيرية أو إنسانية. ويضع هذه الجمعيات تحت إشراف صارم من مؤتمر الشعب العام، باعتباره الجهة الإدارية المنظمة لعمل الجمعيات، التي تنفرد بسلطة التسجيل والإشهار للجمعيات، والموافقة على نظامها الأساسي وأسماء أعضاءها. ويحق لها إبطال القرارات والإجراءات الخاصة بالجمعية. كما يحق لها، دون إذن قضائي، تعيين إدارة مؤقتة للجمعية أو إغلاقها أو حلها أو دمجها بأخرى. كما يرهن القانون حق الجمعيات في الحصول على تمويل أو مزاولة نشاط ما أو عقد اجتماع للجمعية العمومية، بإشراف وحضور ومباركة مؤتمر الشعب العام.
ولعل من المؤسف أن مجلس النواب تقاعس لسنوات عن الامثال لالتزامه الدستوري بسن تشريع جديد يضمن حرية واستقلال المجتمع المدني في ليبيا، مكتفيًا مؤخرًا باقتراح تعديلات شكلية على القانون 19/2001، تتلخص فقط في تغيير مسمى الجهة الإدارية التي ستتولى قمع الجمعيات، لتصبح (المفوضية العامة للمجتمع المدني) بدلًا من (اللجنة الشعبية العامة أو مؤتمر الشعب العام) وذلك دون أي تغيير يذكر في طبيعة الصلاحيات الواسعة غير الدستورية المخولة لهذه الجهة. فبحسب التعديل المقترح هذه المفوضية الجديدة، ذات الشخصية الاعتبارية والميزانية المستقلة، ستتبع السلطة التشريعية وتختار رئاسة مجلس النواب أعضائها. وستتولى منفردة (شأنها شأن اللجنة الشعبية العامة سابقًا)، قبول أو رفض تسجيل الجمعيات دون إبداء أسباب، إيقاف أو حل الجمعية دون أذن قضائي، إلغاء قرارات مجلس إدارة الجمعية وتبديله، والموافقة المسبقة على أي نشاط أو تمويل للجمعية. كما تختص المفوضية بمنح كافة الأذونات، وإتمام الإجراءات القانونية والإدارية، والإشراف والمتابعة للجمعيات والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية.
هذه الصلاحيات الواسعة والقمعية، لا تعصف فقط بحرية واستقلال العمل الأهلي المصونة بموجب الإعلان الدستوري. وإنما تخالف مبادئ حرية التنظيم التي أقرها العهد الدولي، وضمانات حرية تكوين الجمعيات حسب المادة (10/1) من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. وتخالف بشكل جذري المعايير الأساسية الواجبة في أي قانون وطني منظم للعمل الأهلي، والواردة في تقرير المقرر الخاص الأممي المعني بحرية التنظيم الصادر في مايو 2012.
جدير بالذكر أن الاقتراح بالعودة لقانون 19 لسنة 2001 أو إدخال تعديلات شكلية عليه لتبرير مواصلة تطبيقه، جاء تحايلًا على حالة الفراغ التشريعي وغياب الإطار القانوني المنظم لعمل الجمعيات منذ 2011، الأمر الذي أفسح المجال أمام السلطات التنفيذية للتعدي على هذا الاختصاص. فأصدرت منذ 2016 وحتى مارس 2023، أربع قرارات ولوائح إدارية تعكس إصرار السلطات الحاكمة في الشرق والغرب على خنق حرية تكوين الجمعيات الوطنية والدولية، وخاصة الحقوقية التي تفضح انتهاكاتها، والسيطرة عليها. هذه اللوائح والقرارات هي؛ اللائحتين 1 و2 لعام 2016 الصادر عن حكومة الشرق، القرار رقم 286 لسنة 2019 الصادر عن المجلس الرئاسي في طرابلس، وقرار رقم 5 لسنة 2023 لمفوضية المجتمع المدني التابعة له. ثم جاء التعميم العام رقم 5803 الصادر في 13 مارس 2023، والصادر من قبل إدارة التعاون الخارجي التابعة لحكومة طرابلس، والمستند إلى الرأي القانوني الصادر في 7 مارس عن دائرة القانون الليبية، ليعيد قانون 19 لسنة 2001 كإطار تشريعي لتنظيم العمل الأهلي، ويعصف بشرعية كل الجمعيات المسجلة بعد عام 2011.
ولما أقرت دائرة القانون الليبية عدم مشروعية القرار رقم 286/2019، مؤكدة بطلان كافة القرارات واللوائح التنفيذية المشابهة لأنها صادرة عن غير جهة الاختصاص وتتعدى على سلطة التشريع. وبالمثل قضت دائرة الأمور المستعجلة بمحكمة جنوب بنغازي في 18 يوليو 2022، بتعليق العمل بالقرار نفسه بناء على طعن قدمته منظمات حقوقية ليبية ضده، كان لزامًا على مجلس النواب أن يطرح قانون جديد بديل عن قانون 19/2001، ينظم العمل الأهلي ويضمن استقلاله، بدلًا من أن يكتفي باقتراح تعديلات شكلية على قانون باطل وغير دستوري.
يجدد مركز القاهرة دعوته للسلطات التشريعية الليبية لتبني قانون الجمعيات المدنية الذي صاغته لجان ليبية متخصصة، وخضع للمراجعة عدة مرات على مدى 10 سنوات من جانب خبراء ليبيين ودوليين. وقدمه ائتلاف المنصة الليبية عام 2021 للجنة التشريعية لمجلس النواب، ولم يتلق رد بشأنه حتى الآن. ويؤكد أن ادخال اية تعديلات على قانون غير دستوري وباطل لن يجدي. ويحذر من استدعاء قانون قمعي ليكون الإطار الناظم لحرية التنظيم، يشًكل خطرًا كبيرًا على عمل عشرات الجمعيات والمنظمات الليبية والدولية والإغاثية العاملة في ليبيا.