حسب جماعات حقوقية إن المصطلحات الفضفاضة والغامضة للقانون المصدق عليه تهدد حرية التعبير وخصوصية المواطنين.
نشر أولًا على مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان
تدعو المنظمات الحقوقية الموقعة أدناه مجلس النواب الليبي إلى إلغاء القانون رقم (5) لسنة 2022 بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية، والصادر في 27 سبتمبر 2022. كما تدعو السلطات الليبية لعدم تطبيقه بسبب انتقاصه لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وخاصة الحق في حرية التعبير والرأي والحق في حرية التجمع السلمي، فضلاً عن تعديه على الحق في الخصوصية وحماية البيانات الشخصية. وتؤكد المنظمات أن هذا القانون يقنن الرقابة الشاملة للسلطة التنفيذية على الفضاء الرقمي، دون إذن قضائي، مع إمكانية حجب المواقع والمحتوى.
في 27 سبتمبر 2022، قرر مجلس النواب الليبي إصدار قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، بعد قرابة سنة من التصديق عليه، في تجاهل تام للمطالب السابقة لمنظمات المجتمع المدني وأربعة من المقررين الخواص للأمم المتحدة بسحب القانون وعدم تطبيقه؛ لتعارضه مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والتزامات ليبيا الدولية، بالإضافة لغياب مبدأ الحوار والتشارك مع مختلف الفاعلين وأصحاب المصلحة عند صياغته.
في هذا السياق، نستعرض فيما يلي أبرز المخاطر الذي يشكلها هذا القانون، والذي لم يكن متاحًا سوى في شكل تسريبات على وسائل التواصل الاجتماعي، قبلما ينشره مجلس النواب بصفة رسمية على صفحته على منصة فيس بوك، بعد بضعة أيام من صدوره بصفة فعلية.
مصطلحات عامة وفضفاضة مخالفة للمعايير الدولية لحقوق الإنسان
تنص المادة الرابعة من القانون على أن «استخدام شبكة المعلومات الدولية ووسائل التقنية الحديثة مشروعة ما لم يترتب عليه مخالفة للنظام العام أو الآداب العامة»، معتبرةً بصفة آلية أن كل استعمال قد يخالف هذه المصطلحات الفضفاضة مثل «النظام العام» أو «الآداب العامة» غير مشروع، وبالتالي غير قانوني. كما تنص المادة السابعة أنه بإمكان الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات «حجب كل ما ينشر النعرات أو الأفكار التي من شأنها زعزعة أمن المجتمع واستقراره أو المساس بسلمه الاجتماعي»، دون تحديد واضح لمعنى «أمن المجتمع» و«سلمه الاجتماعي». وتفرض المادة الثامنة على الهيئة نفسها حجب المواقع أو الصفحات الإلكترونية التي تعرض موادًا «مخلة بالآداب العامة». كما نصت المادة 37 على غرامات مالية وعقوبات بالسجن لكل «من بث إشاعة أو نشر بيانات أو معلومات تهدد الأمن والسلامة العامة في الدولة أو أي دولة أخرى».
إن استعمال هذه العبارات والمصطلحات الفضفاضة يُخالف المعايير الدولية لحقوق الإنسان المعتمدة في صياغة التشريعات المتعلقة بالاستثناء الخاص بتقييد حق الرأي والتعبير، إذ ينبغي لهذه النصوص أن «تُصاغ بدقة كافية حتى يتسنى للفرد ضبط سلوكه وفقًا لها» وذلك حسب التعليق العام رقم 34 لمجلس حقوق الإنسان حول المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه ليبيا في 15 مايو 1970.
افتقار أحكام هذا القانون للدقة المطلوبة يمنح سلطة تقديرية واسعة سواء للقضاء أو للسلطة التنفيذية، ممثلة في الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات (NISSA)، للحد من استعمالات الفضاء الرقمي، بما لذلك من تبعات على الحق في حرية الرأي والتعبير والحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، دون ضوابط قانونية واضحة ومشروعة ومحددة سلفًا.
رقابة شاملة وحجب مواقع ومحتوى دون أذن قضائي
خطورة المادة السابعة من هذا القانون تكمن في منح الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات سلطة فرض رقابة شاملة على كل المعطيات المنشورة والمعروضة على شبكة الإنترنت أو “أي نظام تقني آخر”، كما تمنح للهيئة سلطة حجب “كل ما ينشر النعرات أو الأفكار التي من شأنها زعزعة أمن المجتمع واستقراره أو المساس بسلمه الاجتماعي”.
هذه السلطة التقديرية الواسعة لجهاز تنفيذي تحت عبارات عامة وفضفاضة تمثل تعارض تام مع التزامات ليبيا الدولية وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهو ما نبهنا إليه سابقا وأشار إليه المقررين الخواص في رسالتهم المشتركة إلى السلطات الليبية في 31 مارس 2022. إذ أوضحت الرسالة أن حجب المحتوى الإلكتروني يجب أن يكون في إطار محدد، وبناء على قرار من سلطة قضائية مستقلة ومحايدة، وفي توافق مع مبادئ الشرعية والضرورة والتناسب. كما اعتبر المقررين الأمميين أنه على الدول الامتناع عن المراقبة السابقة للمحتوى مثلما هو الحال في هذه المادة.
يضيف غموض مصطلح “أي نظام تقني آخر” معضلة أخرى بشأن مدى إمكانية توسع الهيئة في مراقبة نظم تكنولوجية ووسائل تواصل أخرى قد لا تكون مشمولة بكافة مواد هذا القانون، مما يزيد من عدم الوضوح القانوني الذي قد توظفه السلطة التنفيذية في غير محله، خاصة مع غياب دور واضح لسلطة مُوازنة وضامنة لعدم انحراف السلطة التنفيذية في تطبيق وتفسير القانون، وهي السلطة القضائية.
المادة (7) تعتبر مخالفة للحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، لأنها تقوض الحق في مشاركة وتقبل المعلومة في الفضاء الرقمي، وتسمح بحجبها وفق تقدير الهيئة الوطنية وفي غياب لرقابة قضائية، خاصة في ظروف سياسية معينة مثل الاحتجاجات أو الانتخابات، قد يكون فيها الإنترنت هو وسيلة الجمهور الرئيسية للبحث عن المعلومة وإمكانية التنظيم للتعبير عن رأيهم وتوجهاتهم بعيدًا عن رقابة السلطة التنفيذية القائمة، وهو الاستنتاج نفسه الذي سبق وخلص إليه المقررون الخواص.
تهديدات خطيرة لحرية الصحافة والنشر والتعبير
دون تعديل على ما جاء في نسخة القانون المسربة على وسائل التواصل الاجتماعي، أبقى البرلمان في نسخة القانون النهائية على المادتين 13 و47 المتعلقتين بـ”الاعتراض أو التعرض” و”التنصت غير المشروع، رغم ما يمثلاه من تهديد واضح لحق الصحفيين في النفاذ إلى المعلومات والتواصل مع المصادر ونشر المستجدات في إطار دورهم الإعلامي. ومن ثم، حرمان عموم المواطنين والمواطنات من حقهم في المعلومة عبر صحافة حرة غير خاضعة لتقديرات السلطة التنفيذية في تأويل عبارات عامة وفضفاضة مثل “النظام العام” أو “المصلحة العامة”. وتعزيز السلطة التقديرية سواء للجهة التنفيذية أو القضائية في تأويل كل ما يمكن الحصول عليه عبر “الأنظمة الإلكترونية”.
هذه الإجراءات تتعارض مع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في فقرتها الثانية، والتي تنص أنّ “لكل إنسان الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”، وهذا ما أكدناه سابقا وتطرقت له رسالة المقررين الخواص للأمم المتحدة الموجهة للسلطات الليبية.
هذا القانون وما يترتب عليه من إجراءات يزيد من هشاشة وضع الصحافة في ليبيا، حيث يتعرض الصحفيون والصحفيات بصفة مستمرة للتضييق والتهديد والعنف الجسدي، مما دفع بليبيا إلى ترتيب متأخر في مؤشر حرية الصحافة لمنظمة مراسلون بلا حدود(143 من جملة 180 بلد). كما يمنح القانون غطاء شرعي لهذه الانتهاكات بحقهم في ظل مناخ يتسم بعدم الاستقرار السياسي وتفشي ظاهرة الإفلات من العقاب.
اعتداء مقنن على الخصوصية وتهديد لأمن المواطنين والمواطنات الرقمي
حسب هذا القانون، تجرم المادة 9 والمادة 39 حيازة وسائل التشفير واستعمالها، و”يعاقب بالسجن وبغرامة لا تقل عن 20000 عشرين ألف دينار ولا تزيد على 100000 مائة ألف دينار كل من أنتج أو حاز أو وفر أو زرع أو سوق أو صنع أو صدر أو استورد وسائل تشفير دون ترخيص أو تصريح من قبل الجهة المختصة في الدولة”. وحسب المادة 9، تعد الهيئة الوطنية هي المختصة بضمان أمن وسلامة المعلومات، وهي تابعة للسلطة التنفيذية التي سبق ومنحها القانون سلطة رقابة مطلقة على كل ما ينشر ويعرض في الفضاء الرقمي.
تعتبر وسائل التشفير الرقمي من أهم المكتسبات الحديثة التي تمكن المواطنين والمواطنات من ممارسة حقهم في حرية الرأي والتعبير مع احترام حقهم في الخصوصية، وبالتالي لا يجوز لأي سلطة أن تحد من حق حيازتها أو استعمالها إلا في حالات محددة، تتسق وضوابط الشرعية والضرورة والتناسب. كما أكد المقرر الخاص الأممي المعني بحرية الرأي والتعبير رفقة عدد من الخبراء الأمميين في الإعلان المشترك حول تحديات حرية التعبير في العقد القادم عام 2020؛ أنه يجب على الدول أن “تمتنع عن فرض قيود اعتباطية أو غير قانونية على استخدام تقنيات التشفير وإخفاء الهوية”. ورغم ذلك يقيد القانون استخدام هذه الوسائل ويرهنها بـ”ترخيص أو تصريح” من قبل هيئة تابعة للسلطة التنفيذية، ويفرض عقوبات قاسية حال مخالفة ذلك.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذا الحصار المفروض على وسائل التشفير، إضافة إلى سلطة الرقابة المسبقة والشاملة، وإمكانية حجب المحتوى والمواقع، والمواد التي تهدد حرية العمل الصحفي، وحق المواطنين والمواطنات في التعبير والوصول للمعلومات، يصبح من الجلي أن هذا التشريع يشكل خطرًا داهمًا على حقوق الإنسان والحريات العامة في ليبيا.
تعديلات شكلية تفتقر للقيمة في ظل قانون يهدم أبجديات الحقوق والحريات الرقمية
نسخة القانون المصادق عليها من قبل مجلس النواب في 27 سبتمبر 2022 تضمنت 7 تغييرات؛ مقارنة بالنسخة التي توفرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي في أكتوبر 2021.
هذه التغييرات تتمثل في تعديل تعريف القرصنة الإلكترونية في المادة 3 ليصبح “الاستخدام أو النسخ غير المشروع لنظم التشغيل أو البرامج الحاسوبية المختلفة في نظام الحماية الخاصة” عِوَضًا عن؛ “الاستخدام أو النسخ غير المشروع لنظم التشغيل أو البرامج الحاسوبية المختلفة والاستفادة منها شخصيا أو تجاريا”. كما تمت إضافة تعريف جديد يخص الهيئة الوطنية لتصبح؛ “الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات المنشأة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 28 لسنة 2013م”. كما تم أيضا تغيير عنوان المادة 6 إلى “الأعمال الأدبية أو الفنية أو العلمية” بدلا من “الأعمال الأدبية أو الفنية أو العلمية الرقمية”.
هذا بالإضافة إلى تعديلات محدودة في الإجراءات والعقوبات. ففي المادة 7 تم تعديل فقرتها الثانية بحذف “وفي غير أحوال الضرورة الأمنية والاستعجال” ليصبح نص المادة: “يجوز للهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات مراقبة ما ينشر ويعرض عبر شبكة المعلومات الدولية أو أي نظام تقني آخر، وحجب كل ما ينشر النعرات أو الأفكار التي من شأنها زعزعة أمن المجتمع واستقراره أو المساس بسلمه الاجتماعي، ولا يجوز مراقبة الرسائل الإلكترونية أو المحادثات إلا بأمر قضائي يصدر عن القاضي الجزئي المختص.” كما تم تعديل مدة العقوبة في المادة 13؛ بزيادة مدة الحبس من 6 أشهر لسنة، وفي المادة 45 الخاصة بالتعاون مع الجماعات الإرهابية، تم حذف عبارة “المؤبد” لتكون “يعاقب بالسجن” عوض “يعاقب بالسجن المؤبد”.
هذه التعديلات تبقى بلا معنى في ظل قانون يكرس الرقابة الشاملة ويمنح الأجهزة التنفيذية سلطة حجب المواقع والمحتوى ويفرض قيودًا على استعمال وسائل التشفير، مستخدمًا مصطلحات فضفاضة مثل “الآداب العامة” أو “النظام العام” ويتعارض بشكل تام مع مبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتعهدات ليبيا الدولية، خاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والإعلان الدستوري المؤقت الصادر في 3 أغسطس 2011 وتعديلاته .
وبناء عليه، تطالب المنظمات المنضمة لهذا البيان بـ :
- تطالب مجلس النواب الليبي بالإلغاء الفوري للقانون رقم (5) لسنة 2022 بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية.
- تدعو السلطات الليبية إلى عدم تطبيق هذا القانون والعمل على صياغة قانون جديد يتماشى مع الإعلان الدستوري الليبي والمعايير الدولية لحقوق الإنسان والتزامات ليبيا الدولية.
- تطالب مجلس النواب وباقي السلطات الليبية اعتماد مبدأ الحوار والتشارك مع المجتمع المدني الليبي والمنظمات الدولية المختصة عند صياغة أي مشروع قانون يخص الحقوق والحريات الأساسية.