وثق مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان العديد من الحالات التي تبين مدى القمع المنهجي الذي تستخدمه السلطات لقمع المعارضة.
نشر أولًا على مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
«السلطات الليبية تتعمد توظيف الخطاب الأمني والديني لقمع المعارضة.» كان هذا الاستنتاج محور الورقة البحثية التي أعدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان تحت عنوان «تبرير القمع»، موثقًا مجموعة من الوقائع في الفترة بين عام 2020 و2024 التي تعكس هذا النمط من القمع، سواء من قبل الأجهزة الأمنية أو الجماعات الدينية المسلحة المهيمنة، والمبني بالأساس على التحريض على النشطاء الحقوقيين والسياسيين، بل والزج بهم في السجون، وغلق مؤسساتهم، بدعوى تهديدهم للأمن العام أو مخالفتهم وعدائهم للدين وقيم المجتمع.
تعاني ليبيا من الانقسام، إذ تتنافس فيها حكومتان وعدد من الكيانات المسلحة. وقد أدت هذه البيئة الانقسامية إلى إحباط جميع الجهود الدولية والمحلية المتطلعة للإصلاح. ولكن رغم التنافس والانقسام، تشترك السلطات في الشرق بقيادة خليفة حفتر، وفي الغرب تحت سيطرة حكومة عبد الحميد الدبيبة المعترف بها دوليًا، في سمة رئيسية واحدة هي؛ الاستهداف المنهجي للنشطاء السياسيين والحقوقيين، وقمع كل أشكال المعارضة سواء باستخدام الخطاب الديني أو المبررات الأمنية، وتوظيف الإطار القانوني القمعي للانتقام منهم. ولعل خطورة هذا المشهد السياسي المعقد تتضاعف بعدما أعلنت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في 9 يوينو الجاري، عن بدء عملية تسجيل الناخبين لانتخابات المجالس البلدية في 60 بلدية، بما في ذلك بلديات انقضت وأخرى مستحدثة تُدار حاليًا بمجالس تسيرية. ويخشى مركز القاهرة تنامى القمع خلال هذه الفترة كما سبق وحدث في انتخابات أغسطس 2020. حين هاجم لواء سلفي مسلح تابع للجيش الوطني الليبي مراكز الاقتراع في بلدية تراغن جنوب غرب ليبيا، وأخرى في بلدية القطرون، وأغلقهم ومنع إجراء الانتخابات فيهم، فقررت اللجنة المركزية لانتخابات المجالس البلدية تعليق الانتخابات في البلديتين لأسباب أمنية. وقبل أيام قليلة من إعصار درنة في سبتمبر 2023، أحرق أعضاء كتائب “أولياء الدم” الموالية لحفتر ملصقات الدعاية لمرشحي انتخابات المجلس البلدي، وهددوا المرشحين بالاختطاف والقتل، مطالبين بإلغاء الانتخابات وتعيين حاكم عسكري.
تحظى الأجهزة الأمنية إلى جانب الفصائل المسلحة، المتأثرة بالإيديولوجية السلفية المدخلية، بحضور متمكن في كل من شرق ليبيا وغربها. وقد تسبب الاندماج بين هذه الأجهزة وبين الجماعات المسلحة الكبرى في تعزيز قوتهما العسكرية بشكل كبير، وتنامي نفوذهما السياسي على الحكومات المتنافسة. وحاليًا تعمل الجماعات المسلحة تحت إشراف جهاز الأمن الداخلي في شرق ليبيا وغربها، وتتولى بشكل أساسي قمع حريات التعبير وتكوين الجمعيات، ومصادرة حقوق النساء، مستخدمًة تشريعات القذافي، ومبررةً انتهاكاتها بادعاءات الالتزام الأخلاقي والديني وحماية الأمن والسلم المجتمعي.
في تحليلها، استندت الورقة البحثية إلى 45 حالة وواقعة، تنوعت بين نشطاء مجتمع مدني أو شخصيات سياسية أو مدافعين عن حقوق الإنسان، على نحو يعكس ويثبت حجم اتساع القمع الممنهج لإسكات المعارضة وتقييد الحريات المدنية، من خلال الاعتقال التعسفي والملاحقات القضائية والتلاعب الممنهج بالخطاب الأمني والديني. وامتداد هذا النمط من القمع لاستهداف أيضا المؤسسات، بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية، التي يتم تبرير غلقها أو حلها أو تعطيل أنشطتها استنادًا للمبررات نفسها.
وقد خلصت الورقة أيضًا لتوظيف حكومتي الشرق والغرب لقوانين النظام السابق القمعية، ومصطلحاتها غير المنضبطة، لتكيل الاتهامات وتعاقب وتنتقم من كل أصحاب الآراء المختلفة عن تلك التي تمليها الدولة أو يفرضها المجتمع. بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر؛ بعض مواد قانون العقوبات الليبي التي تفرض عقوبة تصل حد الإعدام على ممارسة الحريات الأساسي، وقانون الجرائم الإلكترونية، وقانون تنظيم الجمعيات. فضلاً عن القرارات واللوائح الرسمية التي تصدرها السلطات التنفيذية في الشرق والغرب، وخطابات التحريض والتشهير والتهديد في المنابر الإعلامية.
وفي هذا السياق وثقت الورقة أيضًا مجموعة من حالات الاعتقال والاحتجاز التعسفي التي تبررها تهديدات أمنية غامضة، تفتقد على الأغلب لأي أدلة، أو ربما تستند لاعترافات تم انتزاعها تحت التعذيب والإكراه، فضلاً عن الانتهاكات الخطيرة في أماكن الاحتجاز، والتي تتقاعس السلطات الليبية عن فحصها أو التحقيق فيها، بما في ذلك حالات الوفاة الغامضة في أماكن الاحتجاز، مثل واقعة وفاة الناشط السياسي سراج فخر الدين دوغمان في سجن غير رسمي داخل مقر القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية في الرجمة جنوب شرق بنغازي، والذي كان قد تم احتجازه بسبب مشاركته في مناقشات سياسية حول الانتخابات المرتقبة. كما وثقت الورقة انخراط أعضاء جهاز الأمن الداخلي في وقائع احتجاز تعسفي أخرى لمدافعين عن حقوق الإنسان ومدونين، تحت ستار حماية “القيم المتأصلة في ليبيا وحماية قيم الإسلام”. وفي معظم هذه الحالات، سلطت الورقة الضوء على نمط متكرر يتمثل في انتزاع السلطات للاعترافات القسرية، التي يبثها جهاز الأمن الداخلي علنًا على وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية، على نحو ينطوي على انتهاكات جسيمة لخصوصية الأفراد والإجراءات القانونية الواجبة، وتحمل رسائل تهديد وترهيب لبقية المجتمع.
لقد سجلت السلطات الليبية مستويات جديدة من القمع خلال السنوات الأربعة الماضية، فتم احتجاز العشرات لمجرد تعبيرهم عن آرائهم، وامتد الخناق حتى للمعارضين في الخارج، فضلاً عن سيطرة السلطات على الخطاب العام القائم على الترهيب والتهديد. على السلطات الليبية التوقف عن إثارة المخاوف الأمنية الزائفة وتوظيف الخطاب الديني لخنق المعارضة.
زياد عبد التواب نائب مدير مركز القاهرة
في ختام الورقة قدم مركز القاهرة مجموعة من التوصيات التي تنطلق أولاً من إطلاق سراح جميع النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان المحتجزين لمجرد ممارستهم لحقوقهم في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع، وفتح تحقيقات مستقلة في جميع حالات الاحتجاز التعسفي والوفاة أثناء الاحتجاز، ومساءلة المسئولين عنها. كما طالب المركز بإلغاء المواد القمعية في قانون العقوبات، لا سيما تلك التي تفرض عقوبة الإعدام على ممارسة الحريات الأساسية، ومراجعة قانون الجرائم الإلكترونية رقم 5 لسنة 2022، ووقف العمل بالقانون رقم 19 لسنة 2001 الخاص بتنظيم العمل الأهلي، وإصدار مرسوم مؤقت ينظم هذا الحق لحين إصدار قانون جديد يضمن حرية واستقلال المجتمع المدني ويتسق مع المبادئ الدولية.