تتزايد التهديدات التي تطال حقوق المواطنين في المحاكمة العادلة والحماية من التمييز، في ظل تقويض استقلال القضاء بفعل القرارات التعسفية والتدخلات الحكومية
نشر أولًا على مركز الخليج لحقوق الإنسان.
من المخزي والمعيب على تونس التي سبقت عصرها في مجال الحقوق والحريات، وأنجبت في الماضي العلاّمة عبد الرحمن ابن خلدون صاحب المقولة الخالدة «العدل أساس العمران»، أن تملك اليوم قضاة يصدرون أحكاما تعسفية ويطبقون القانون بغير وجه حق.
قضاء التعليمات الصارمة المتخوف
أين يتوجه المتظلم إذا كان الظالم هو الذي يصدر الحكم ويتصدى لتحقيق العدالة؟ إلى أين يتجه المظلوم إذا حُوكم بنظام العدالة المقاسة بوحدة قياس لا يمكن قياسها لأنها لا تفي بالمعايير الدولية الدنيا لمفهوم المحاكمة العادلة والإجراءات القانونية؟
منذ سنة 2022 دخلت جمعية القضاة التونسيين، وهي جمعية مهنية مستقلة، في إضرابٍ واعتصامات مفتوحة ، تنديدًا بقرار إعفاء 57 قاضيًا، وأعلنت عدم الترشّح للمناصب القضائية لتعويض المعزولين، وعدم الترشح للمناصب في الهيئات الفرعية التابعة لهيئة الانتخابات. كان قرار الإعفاء هذا بداية سيئة لمستقبل قضائي أسوأ.
توالت بعد ذلك القرارات التعسفية حيث كان قرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء خاتمة الفصل الأول من سياسات عملت على تحويل الحالة الاستثنائية الهجينة إلى مرحلة انتقالية جديدة مبهمة، شكلت بداية جديدة للسلطة القضائية. نقف اليوم على عتبة باب القلق الجدي على العمل القضائي وحيادية القاضي واستقلاله ومسيرة الجهاز القضائي المناط به تحقيق العدالة في تونس.
تميز القضاء التونسي في السنوات الأخيرة بتحركه السريع لملاحقة نشطاء المجتمع المدني والنشطاء السياسيين من المعارضين/ات وبضمنهم الصحفيين/ات والمدونين/ات. في خضم ذلك ظهرت مقولة يردّدها مجموعة القضاة الخاضعين للتعليمات الحكومية الصارمة وهي “تبكي أمّه ولا تبكي أمّي”. إن هذه المقولة تعني الاستعداد لتنفيذ قرارات السلطة التعسفية درأً لتبعات عدم الأخذ بها، والتي قد تشمل مواجهة القاضي قرارات العزل، النقل التعسفي، أو حتى السجن تحت تهمة التآمر على الدولة، إذا حكّم القانون وضميره. إن السلطات تضع القضاة في موضع قد لا يريدونه لكن عليهم رفضه بكل قوة مهما كانت التضحيات من أجل ترسيخ مبادئ العدالة في المجتمع.
لقد تطور الوضع ليصبح أكثر سوءًا عندما تم في 26 فبراير/شباط 2025، إبلاغ فرع الهيئة الوطنية للمحامين في العاصمة تونس بمذكرة عمل إدارية صادرة عن رئيسة المحكمة الابتدائيّة بتونس أيضًا، تقرّر بمقتضاها اعتماد المحاكمة عن بُعد فيما يتعلّق بالقضايا المنشورة بالدائرة الجنائيّة المتخصّصة في القضايا الإرهابيّة طيلة شهر مارس/آذار 2025، مع مواصلة ذات الإجراء فيما يرتبط بتلك القضايا بعد ذلك.
إن هذا الإجراء الذي يشمل جانبا ممن تتم ملاحقتهم في قضايا جنائية توصف بالإرهابية والتي تشمل قضايا التآمر التي يمثل فيها عدد من النشطاء السياسيين.
تم التأكيد على، “أنّ فرض محاكمات عن بُعد في قضايا جنائيّة على درجة من الخطورة ويواجه فيها المتهمون في عددٍ من الحالات عقوبات مشددة قد تصل للإعدام يمسّ بالحق في المحاكمة العادلة.”
الجدير بالذكر، أن القانون المرقم 19 لسنة 2020، الذي صدر لمواجهة تداعيات انتشار فايروس كورونا (كوفيد-19)، أقر إجراءات المحاكمة عن بعد من أجل سلامة الجميع، في حين أن المصادر الحكومية تؤكد سلامة الوضع الصحي الحالي في البلاد وبضمنها السجون أيضًا.
فوضى عارمة في وزارة العدل
خلال ندوة صحفية انعقدت بتاريخ 10 فبراير/شباط 2025، كشفت الجمعية العامة لموظفي وزارة العدل التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، الوضع المفزع الذي وصَفته بأنه يمثل، “الفوضى العارمة” و”الارتباك غير المسبوق” داخل وزارة العدل، بسبب أوامر النقل التعسفية التي طالت العديد من الموظفين والكوادر والمسؤولين النقابيين، والدرجات الشاغرة التي باتت تشهدها العديد من أقسام الوزارة المختلفة. كذلك في انتهاكٍ لحرية العمل النقابي، حُجبت الرواتب عن بعض المسؤولين النقابيين، وتمت معاقبتهم عبر إحالتهم على مجالس التأديب، أو تم فتح تحقيقات جزائية ضدهم على تهم ٍ مفبركة.
الهيمنة على القضاء
إن من أوجه الهيمنة على القضاء هو السيطرة على النيابة العمومية لتيسير توجيه الاتهامات ضد المعارضين، عبر ممارسة الضغوط على القضاة. في بيانٍ صدر عنه بتاريخ 18 يناير/كانون الثاني 2025، كشف المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين عن حضور ممثلة النيابة العمومية لدى محكمة العاصمة تونس إلى مقرّها في قصر العدالة، مصحوبة بعنصر أمني، وقد طلبت من رئيس الجمعية وأعضاء مكتبها التنفيذي قطع اجتماع كانوا يعقدونه ومغادرة المحكمة فورًا.
غياب المحكمة الدستورية
في ظل غياب المحكمة الدستورية يبقى الحال كما هو عليه من اضطراب وفوضى، فرغم النص الصريح عليها في دستور سنة 2014 وإعادة ضبط تركيبتها واختصاصها في الفصل السادس من دستور سنة 2022، إلا أنها ظلت محل سجال سياسي تزداد حدته مع كل أزمة سياسية تونسية.
تكتسب المحكمة الدستورية أهمية بالغة ليس فقط لكونها هيئة قضائية مستقلة ولكن لأن رئاسة الجمهورية والبرلمان يخضعان لرقابتها في المراسيم والأوامر الرئاسية التي يتم إصدارها، وكذلك مشاريع القوانين التي يتم عرضها والمصادقة عليها من مقبل البرلمان، فضلا عن حلول رئيس المحكمة محل رئيس الدولة في حالة العجز التام أو الوفاة أو الاستقالة.
تظل تونس أمام فراغ في هذه الحالات الاستثنائية، وفي حالة عجز أمام هذه المماطلات التي تسعى للهرب من مخالب المراقبة، ويبدو جليًا للمواطنين أن الحكومة لا تريد أن يراقبها أحد.
التوصيات
يحث مركز الخليج لحقوق الإنسان السلطات في تونس على:
- إيقاف كل أشكال التدخل في شؤون السلطة القضائية واحترام استقلاليتها وعدم السعي لاستخدامها كسلاحٍ ضد المعارضين من خلال محاكمات عن بعد دون أي تبريراتٍ جدية ومترابطة؛
- احترام الحقوق المدنية والإنسانية للمواطنين كافة وصيانة الحريات العامة وفي مقدمتها حرية التعبير بالإضافة إلى حماية العمل النقابي المستقل؛
- تشكيل المحكمة الدستورية في أقرب الآجال.