مع انتشار الانترنت ووصوله إلى كل بيت وكل فرد عبر الهواتف النقالة ازدادت المنابر التي يمكن للمواطن العربي ان يعبّر من خلالها عن رأيه بحرية ويستطلع آراء باقي أفراد المجتمع ولعلّ الاستطلاع بأهمية التعبير الذاتي فسمح، وللمرة الاولى في بعض البلدان كمصر والبحرين وليبيا وسوريا، بتشكيل مجموعات ضغط يتشاطر أفرادها آراء مشابهة وطموحا مماثلا.
ظهر هذا المقال أولاً على موقع مارش بتاريخ 2 تموز 2017
لطالما كانت الشبكة العنكبوتية الملاذ الآمن حيث يلجأ المفكرون والصحافيون والناس للتعبيرعن آرائهم بعيداً عن مراقبة أنظمة الحكم والحكومات المستبدة والشركات والنافذين في المجتمعات حول العالم فكانت مساحة الحرية المطلقة حيث لا خوف من ملاحقة قانونية أم مضايقة أمنية. ولكن مع تزايد أعداد مستعملي الشبكة والارتفاع الهائل في نسبة رواد مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة ومع ازدياد قدرة التأثير التي يمكن ممارستها على الانرتنت والتي وصلت الى حد قلب أنظمة للحكم كما حصل في الربيع العربي وحتى في بعض الدول المتطورة- كوريا الجنوبية مثلا- بفضل فضائح الفساد التي لم يكن لها سبيل للانتشار السريع في العقود المنصرمة سوى الصحافة التقليدية، أخذت هذه المساحة تضيق شيئاً فشيئاً بفضل عدة عوامل ولعلى أهمها مراقبة الحكومات لها عبر القوانين والأنظمة، وازدياد أحكام وشروط استعمال الصفحات الالكترونية ومواقع التواصل انسجاماً مع قوانين الدول وأخيراً الرقابة الذاتية التي يمارسها الأفراد خوفاً من الملاحقة القانونية أو المنع من استعمال الموقع.
أما في بلادنا العربية ومنذ نشأتها واستقلالها في أوساط القرن المنصرم، فلم يعرف الأفراد معنى حرية التعبير قط حيث لطالما كانت وسائل الاعلام مملوكة من قبل الحكومات أو الحكام. ومع تطور الصحافة والاعلام بقي هامش الحرية المتاح ضيق جداً وبقية تلك المنابر الاعلامية إما مملوكة من الدولة وإما لمجموعات سياسية تستعملها لنشر أفكارها وأجندتها الخاصة. حتى في لبنان الذي يعتبر من أكثر الدول العربية حريةً فتقريباً كافة وسائل الاعلام مملوكة حزبياً أو مدعومة اقليمياً وإن كان بعضها مملوكا لرجال أعمال فتبقى مصادر التمويل مشبوهة ونسمع كل فترة وأخرى عن اعلامي يتم الاستغناء عن خدماته لموقف أخذه او لتمرده على إدارة المحطة “الحرّة”.
أما في الدول العربية الأخرى فحدث ولا حرج وحسب مؤشر حرية الصحافة العالمي للعام 2017 التي تصدره منظمة مراسلون بلا حدود، دولنا في حالة انحدار مستمر حيث خُفّض تصنيف 13 دولة عربية بينها لبنان وتونس وقطر والمغرب والسعودية ومصر والجدير بالذكر أن الانحدار لم يحصل من أماكن متقدمة على اللائحة بل طال دول كانت تتذيلها أصلا وأصبحت في قعر هذا المؤشر كسوريا في المركز 177 والسودان 174 والسعودية 168. أما في تقرير آخر لمنظمة “فريدوم هاوس” فاعتبرت المنظمة أن كافة الدول العربية تفتقر لصحافة حرّة وفقط ثلاث دول هي تونس ولبنان والكويت تمتلك صحافة حرّة جزئياً.
إذاً وأمام هذا الواقع المرير لحالة الصحافة والاعلام في بلادنا فإن الانترنت ومنذ نشأته شكل مساحة الحرية التي لطالما افتقدها المواطن العربي أو لم يعهدها قطّ. ومع انتشار الانترنت ووصوله إلى كل بيت وكل فرد عبر الهواتف النقالة ازدادت المنابر التي يمكن للمواطن العربي ان يعبّر من خلالها عن رأيه بحرية ويستطلع آراء باقي أفراد المجتمع ولعلّ الاستطلاع بأهمية التعبير الذاتي فسمح، وللمرة الاولى في بعض البلدان كمصر والبحرين وليبيا وسوريا، بتشكيل مجموعات ضغط يتشاطر أفرادها آراء مشابهة وطموحا مماثلا.
ولكن وكما عودنا حُكامنا فما إن وجدت منظومة أو وسيلة أو حتى فكرة تشكل خطر على عروشهم وكراسيهم الأبدية فلا بد من لجمها وتحطيمها لتأمين استمراريتهم وديمومتهم ولكن مع فوات الأوان عند بعض الحكام وتهاويهم قبل تدارك مدى “خطورة” الشبكة العنكبويتة وقوتها أمام استبدادهم، قرّر من صمد بفضل النظام الأمني أو الرخاء الاقتصادي أو كليهما، أن يسخّر كل موارده لمكافحة مساحة الحرية المستجدة.
وبما أن الحاجة أم الاختراع، بدأت الدول العربية باستحداث وابتكار وسائل قمعية تعدت حجب المواقع التي ترّوج لأفكار سياسية معارضة فشهدنا صعود نجم القوانين الالكترونية التي – وبدلا من أن تكون أداة للتطوّر والنهوض بالشعوب نحو المستقبل- شكلّت رادعا لهذا التطور عبر خنق مساحات الحرية على الشبكة وتعريض من يخالفها وبنودها لعقوبات قاسية وغير مبررة.
والأخطر من القوانين هي أسبابها الموجبة الشمولية والتي يتذرع بها المشرعون لتبرير العقوبات القاسية، أسباب كحماية الأمن القومي والانتظام العام ومنع نشر الأكاذيب والتضليل الاعلامي والقدح والذمّ. وأمام هذه العناوين العريضة يمكن للأجهزة الأمنية قمعُ أي رأي يخالف القيمين على الحكم أو سياسات الدولة الداخلية أو توجهاتها الخارجية، فمن التذمر من ارتفاع سعر صفيحة المازوت إلى انتقاد وزير الداخلية إلى التعاطف مع دول أخرى، كل هذه المواقف أو الآراء قد تعرض أصحابها للملاحقة في دولنا العربية.
من الحكّام ننتقل إلى الشركات المشغّلة للمواقع وشبكات التواصل الاجتماعية التي في نهاية الأمر، ورغم كل ادعائاتها، تبقى شركات تبغى الربح ومن مصلحتها استمرار أشغالها المربحة فينتهي بها المطاف وهي تراعي تلك الدول وقوانينها الجائرة على حساب مستخدميها وحرياتهم الشخصية.
فلنأخذ باكستان على سبيل المثال التي أقرّت قانون معلوماتية يسمح للسلطات بحجب كل ما يخلّ بأمن واستقرار أو كرامة الدولة واستعملته ذريعة لحجب موقع “يوتيوب” على أراضيها فما لبث أن قرر مشغلو الموقع الشهير انشاء موقع باكستاني رديف يسمح للدولة وأجهزتها أن تمارس رقابتها عليه وتحجب عنه كل ما لا يلائمها أو يضايق نظامها الحاكم، حلّ قد تلجئ إليه الشركة أو أي شركة أخرى أمام أي واقعة مماثلة قد تواجهها في البلاد العربية.
إذا وأمام هذا الواقع المستجد حيث سيف الدولة مسلّط على الشركات والأفراد، المشغلين والمستخدمين ومع تعاون المواقع وشبكات التواصل مع الدول لتأمين استمراريها في أسواق العمل المربحة يجد الفرد نفسه قابعا في فضاء الكتروني معادي حيث تغريدة بريئة أو تعليق بسيط قد يطيح بحريته الجسدية فينشأ في نفسه أخطر وأعتى أشكال كبت الحريات ألا وهي الرقابة الذاتية التي يمارسها المرء على نفسه بوعي ولا وعي ويغذيها الخوف والارتياب من تداعيات التعبير الحرّ فيبقى التعبير وتختفي الحرية ويصبح المجتمع أمام أفكار متشابهة متناسقة من ذات اللون والطعم أو بدون لون أو طعم فتقف قافلة الابداع ويقف معها تطور شعب في عالم لا يقف فيه التطور.
أخيراً لا يسعنا سوى تذكير الحكام في بلادنا العربية والمشرعين والشركات التي تراعي تشريعاتهم الرجعية أننا في أمسّ الحاجة لتطوير مجتمعاتنا وقوانينا افساحاً للمجال أمام شبابنا ولكي نخلق لهم مساحة ابداع تدفع بهم وببلادنا ورائهم نحو مستقبل رائد في شتى المجالات. وبما اننا نتذيّل ترتيبات الدول من حيث التكنولوجيا الرقمية والصناعية والخدماتية التي تشكل العامود الفقري لاقتصادات المعرفة التي ستهيمن على مستقبلنا وبما أن هذه الاقتصادات لا تزدهر إلّا من خلال الابداع ولأن لا شيئ يحفّز على الابداع كالحرية في التعبير والتفكير والأداء، لكل تلك الاسباب وحفاظاً على مستقبلنا ومستقبل أولادنا كفّوا عن كبت حرياتنا على شبكة المعرفة، اتركوا لنا الانترنت بعيداً عن الرقابة والاستبداد لكي يخلق لكم جيلاً من المبدعيين يحمل عروبتنا من زمن الانحطاط إلى عصر نهضة جديد ولو كان رقميا هذه المرة.