على عكس حريات أخرى وثقها القانون الإسرائيلي في كتبه، وأعطاها المكانة القانونية الملائمة من خلال تبنيه صراحة لمجمل هذه الحريات، امتنع القانون الإسرائيلي عن توثيق حرية التعبير أو الصحافة في أمهات الكتب القانونية الأساسية.
تعتبر حرية الصحافة المنبثقة عن حرية التعبير وحق الجمهور في المعرفة من مقومات النظام الديموقراطي، وهي تعكس مدى احترام الجهات الرسمية (التي تكون في غالب الأحيان المُهدّدَ الأكبر) لحرية القول والنقد، وكشف الحقائق والمعلومات وعرضها على الجمهور.
على عكس حريات أخرى وثقها القانون الإسرائيلي في كتبه، وأعطاها المكانة القانونية الملائمة من خلال تبنيه صراحة لمجمل هذه الحريات، التي تأتي أساسًا لحماية المجتمع من احتمالات هيمنة الدولة واستبدادها بالمواطن، امتنع القانون الإسرائيلي عن توثيق حرية التعبير أو الصحافة في أمهات الكتب القانونية الأساسية، وذلك رغم اعتراف الدولة والقضاء الإسرائيليين على مدار سنين طوال، منذ قيام الدولة، بأهمية ومركزية هذه الحرية، وبكونها حقًّا دستوريًّا أساسيًّا في الحياة الديمقراطية، بل لا تكتمل الحياة الديمقراطية دون أخذ الضمانات المناسبة لهذه الحرية.
تعاني حرية الصحافة في إسرائيل تحديات على المستوى التقني اللوجستي وعلى مستوى المضمون الصحافي، حيث يلتزم صاحب جريدة ما بتصريح مسبق من المسؤول عن اللواء في وزارة الداخلية قبل طباعة أو نشر الصحيفة، إذ نصت المادة الرابعة من أمر الصحف 1933 (وهو قانون من أيام الانتداب البريطاني، تبناه القانون الإسرائيلي عن طريق أمر نظام الحكم والقانون 1948) على أنه لا يُسمح نشر أو طباعة صحيفة في إسرائيل إلا إذا نال صاحب الصحيفة مُسبقًا رخصة لذلك من المسؤول عن اللواء في وزارة الداخلية، ومن يخالف هذه المادة يُعَرّضُ نفسه للعقوبات المنصوص عليها في القانون، والتي يمكن أن تصل إلى السجن الفعلي حتى ستة أشهر، وإلى الغرامة المالية (انظر المادة 22 من أمر الصحف)؛ ونصت المادة التاسعة عشر من أمر الصحف على أنه يحق لوزير الداخلية إصدار أمر توقيف إصدار ونشر صحيفة لفترة زمنية محددة، إذا قامت الصحيفة بنشر مادة معينة رأى الوزير أنها تمس أمن وسلامة الجمهور، أو إذا نشرت الصحيفة معلومات أو إشاعات كاذبة ومضللة يمكن أن تنشر الهلع واليأس بين الجمهور وفق رأي الوزير (المادة 19 (2) من أمر الصحف).
ونصت المادة 94 (1) من أوامر الطوارئ لسنة 1945، على أنه لا يُسمح بطباعة أو نشر صحيفة ما إلا إذا أَذِنَ بذلك المسؤول عن اللواء الذي ستُطبع فيه، أو من المفروض أن تُطبع فيه الصحيفة. ونص البند (2) من المادة نفسها على أن هناك صلاحية للمسؤول عن اللواء في رفض الطلب أو سحب إذن منح سابقا لصحيفة ما وفق اعتباراته الخاصة، ودون تبرير قراره وعرض أسباب سحب الترخيص أو الإذن من مالك الجريدة. يتعرض كل مخالف لأمر المسؤول أو أوامر الطوارئ، وكذلك مالك الصحيفة والمحرر، إلى العقوبة المنصوص عليها في القانون.
سبب قوننة هذه الصلاحية في عهد الانتداب البريطاني هو الأحداث الدامية سنة 1929 بين السكان العرب والمهاجرين اليهود (ثورة البراق)، والتي شُكِّلتْ في أعقابها لجنة بريطانية (لجنة شو) للتحقيق في الأحداث، وكانت قد استنتجت “أن هناك حرية مفرطة للصحافة في فلسطين، والتي استُغلت لنشر مقالات غير متزنة ومحرضة”، وبالتالي يجب العمل على تقييد هذه الحرية؛ علمًا أن هذه اللجنة لم توصِ بنهج سياسة الترخيصات. يذكر أن هذه الصلاحية لم تكن موجودة أيام الحكم العثماني، ولم تجرِ العادة على أن من أراد تأسيس أو طباعة ونشر جريدة ملزم بإصدار تصريح بذلك من السلطات المسؤولة، إنما اكتفى القانون آنذاك بواجب إخبار السلطات فقط .
كان من الصعب جدا أمام المحكمة العليا التعامل مع قضايا تتعلق بقرارات إغلاق صحف، خاصة تلك القرارات التي اعتمدت على أمر 94 من أوامر الطوارئ 1945، فقد أعطت تلك الأوامر كما هو مذكور أعلاه صلاحية واسعة جدًّا للمسؤول عن اللواء، دون الخوض أمام المحكمة في أسباب ودوافع قراره، ما جعل فحص مدى قانونية وصحة القرار أمرًا يستحيل على المحكمة؛ نذكر على سبيل المثال: في الستينات من القرن الماضي أُغلقت صحيفة تابعة للحركة العربية “الأرض” بقرار من المسؤول عن اللواء، استنادًا الى أمر 94 من أوامر الطوارئ، واعترفت المحكمة في حينه أنها عاجزة عن مد يد المساعدة، وقال القاضي تسبي برنزون، إنه لو أفصح المسؤول عن أسباب ودوافع القرار لكان من الممكن الخوض في شرعيته ومصداقيته .
في الثمانينات من القرن الماضي، تقدمت السيدة نجوان مخول – محاضرة في الجامعة العبرية في القدس، بطلب ترخيص صحيفة “مجلة التقدم” من المسؤول عن اللواء، وقد رفض الطلب دون ذكر الأسباب التي دفعته لذلك، وذلك استنادًا إلى أمر 94 من أوامر الطوارئ 1945. وكان القاضي مناحيم ألون قد وصف عقدة أمر 94 بأنه لم ينل التعزيز الكافي في المحكمة، وبالرغم من ذلك لم يُقبل الالتماس .
في التسعينات من القرن الماضي، شُكِّلَتْ لجنة جماهيرية كلفت فحص قوانين الصحافة في إسرائيل، وقد أوصت سنة 1997 بإلغاء أمر الصحافة الانتدابي فيما يتعلق بالصحف، وكذلك أمر 94 و96 من أوامر الطوارئ 1945، وأوصت اللجنة كذلك بضرورة العمل على تشريع حرية الصحافة وحرية التعبير في القانون الإسرائيلي.
عام 2002، التمست “جمعية حقوق المواطن” إلى المحكمة العليا لشطب أمر الصحف 1933، وكذلك أمر 94 من أوامر الطوارئ 1945، فقامت المحكمة بإصدار أمر احترازي لوزير الداخلية وأوجبته تقديم لائحة جوابية والرد على الالتماس، ومن خلاله توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بسحب وشطب الالتماس مقابل التزام وزير الداخلية بإخبار الجمعية عن أي نية لاستعمال هذه القوانين في تقييد أو منع صحيفة ما، وذلك إلى أن يكتمل العمل على استبدال هذه القوانين.
عام 2008، وقُبَيل فك الكنيست السابعة عشر، قدمت الحكومة اقتراح قانون الصحافة 2008، والذي مر بالقراءة الأولى، ومن ثم حُوِّلَ بمبادرة من وزير الداخلية آنذاك إلى لجنة الاقتصاد، إلى أن انْتُخِبَتْ كنيست جديدة (الكنيست الثامنة عشر)؛ وبطبيعة الحال، واستنادًا إلى قانون تواصلية الحكم 1993، ما لم يتم تبنّي اقتراح القانون من الحكومة المُشكّلة، أو اللجنة المسؤولة على إقتراح القانون في الكنيست، فإنّه لا ينمّ إتمام التقدّم في مسيرة إقتراح القانون.
بالرغم من التوجهات والنداءات لضرورة العمل على تغيير الحالة القانونية المتعلقة بصلاحية الدولة في منع نشر الصحف أو طباعتها، أو حتى تقييدها (من بينها توجهات مركز “إعلام” إلى وزير القضاء وإلى اللجنة الوزارية وإلى لجنة الاقتصاد)، إلا أن الحكومة الثانية والثلاثين (2013-2009) لم تُتِمّ عمل ما التزمت به سابقتها، وبالتالي لم تنل اقتراحات القانون التي قُدّمَتْ في الكنيست الثامنة عشر فيما يتعلق باقتراح شطب وإلغاء أمر الصحافة الانتدابي، مباركة وموافقة الحكومة، وبقيت اقتراحات القانون حبيسة أرشيف الكنيست.
بكتابة المحامي علاء عبد الله – المستشار القانوني لمركز اعلام