اشتعلت جذوة التوتر السياسي الداخلي في هذا الإقليم، كلما حدقت الأخطار بوسائل الإعلام فيه. وفي ظل حالة الإفلات من العقاب عن اعتداءات تتم بحق الصحافة، ومنها القتل والإحراق المتعمد للمقرات، يرى الصحفيون أن عليهم ممارسة رقابة ذاتية عند تناول موضوعات مثل الدين وانعدام العدالة الاجتماعية والفساد المرتبط بمسؤولين متنفذين.
“يا ابن الكلب، إذا أصدرت تلك المجلة غداً، فسوف أدفن رأسك في قبر أبيك الكلب”.
المجلة المعنية هي مجلة ‘رايل’، وهي مطبوعة شهرية مستقلة تصدر في كردستان.
أما الشخص المنادى بـ “ابن الكلب” فهو رئيس تحرير ‘رايل’، كاوه كرمياني الذي يبلغ من العمر 32 عاماً، وكان كاوه قد نشر عدة تقارير زعم فيها وجود فساد في صفوف السياسيين الأكراد، خاصة أولئك المنتمين منهم للحزب السياسي القوي؛ أي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.
وأما المتحدث، بحسب تسجيل للمكالمة الهاتفية المنشورة على موقع يوتيوب في يوليو/ تموز 2012، فهو محمود سنغاوي، وهو عضو في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وجنرال في الجيش.
بعد ثمانية عشر شهراً من تلك المكالمة، قُتل كرمياني، حيث أُطلق عليه الرصاص أمام منزله بتاريخ 5 ديسمبر/ كانون الأول 2013 في مدينة كالار، الواقعة إلى الجنوب من مدينة السليمانية.
كان سنغاوي، وفقاً لتقارير الأنباء، هو المشتبه به الأول، حيث تم اعتقاله بتهمة القتل في يناير/ كانون الثاني 2014، إلا أنه أُفرج عنه بسرعة لعدم وجود أدلة. واحتفظ سنغاوي ببراءته؛ إذ أوقفت السلطات عضواً في الحزب من مرتبة عادية واعترف هذا بارتكاب الجريمة المنسوبة إليه. إلا أن عائلة كرمياني تقول إنه من المستحيل لمواطن عادي أن يكون قد نفذ الهجوم لوحده من غير مساعدة وإن المجرم الحقيقي أو العقل المدبر لا يزال حراً طليقاً.
ولم ينكر سنغاوي صحة المكالمة الهاتفية التي استخدم فيها شتيمة “يا ابن الكلب” وعبارات بذيئة لتهديد كرمياني لأن المجلة -على حد قوله- كانت قد نشرت مقالة مُحرجة مع صورة له في عدد سابق.
وعلى إثر مقتل كرمياني، أعرب عدد من الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان عن شكهم في أن يُحل لغز جريمة القتل وأن يتم جلب العقل المدبر للمثول أمام العدالة. ففي 20 ديسمبر/ كانون الأول 2013 حمل متظاهرون في مختلف أنحاء كردستان لافتات كُتب عليها “ليس القاتل فقط. من يقف وراء القاتل؟” و “كلنا نعرف القاتل”.
ووجه الشاعر الكردي المشهور عبدالله باشيو في بيان له انتقادات شديدة للحكومة الإقليمية الكردية، وقال فيه إن “كاوه [كرمياني] استُشهد في بلد لا يوجد فيه نظام حوكمة ولا مؤسسات ولا محاكم ولا دستور ولا قوانين. لهذا السبب ينبغي لنا ألا ننتظر محاكمة المجرمين الحقيقيين”.
وأمام حشد من الصحفيين ومواطنين أكراد آخرين تجمعوا أمام منزل كرمياني في ديسمبر/ كانون الأول 2013، صاحت شيرين أمين، زوجة كرمياني، وهي تبكي “إن من فعل ذلك هم مسؤولون رفيعو المستوى من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني”. وقالت “إنني أتوسل إلى كل واحد منكم، يا معشر الإعلاميين، بألا تقبلوا بهذا الظلم. لقد كان كاوه أخاً لكم أيضاً”. وقد وضعت زوجة كرمياني مولودهما الأول بعد 17 يوماً فقط من مقتله.
عدم إنفاذ القانون يؤدي إلى الرقابة الذاتية
يضم إقليم كردستان العراق، الذي يبلغ عدد سكانه نحو 5 ملايين نسمة، ثلاث محافظات عراقية رئيسية (أربيل ودهوك والسليمانية)، وله حدود مع كل من إيران وتركيا وسوريا. ولهذه المنطقة علمُها الخاص ونشيدها الوطني، كما أن حكومة إقليم كردستان تمارس سيطرة شبه كاملة شؤون الإقليم الداخلية والخارجية. يتقاسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني سلطة الحكم في الإقليم منذ عام 2003، على الرغم من أن حزباً ثالثاً، هو حزب غوران (التغيير) أحدث هزة سياسية بسبب العديد الكبير من الأصوات التي اجتذبها.
وفي الوقت الذي عصفت فيه السيارات المفخخة والهجمات الانتحارية والتطرف الديني بالعراق في فترة ما بعد الحرب، ظلت المنطقة الكردية بمنأى عن مثل هذا العنف إلى حد كبير. وعلى الصعيد الاقتصادي، يشهد الإقليم ازدهاراً بفضل احتياطياته الضخمة من النفط والغاز الطبيعي. ومع ذلك، وتحت السطح الذي يبدو هادئاً عند مقارنته بكثير من بقاع الشرق الأوسط، إلا أن التوترات السياسية تشتد حدتها فيه في بعض الأحيان، وهذه هي الأوقات التي يكون فيها الإعلام عرضة للمخاطر أكثر من غيرها. يقول الصحفيون المحليون إن المحسوبية والفساد منتشران في كردستان؛ ويتهم الكثير من الأكراد قادتهم باستغلال النفط لتحقيق الثراء لأنفسهم بدلاً من بناء ديمقراطية حية واقتصاد للجميع. وفي المدن الصغيرة، مثل كالار وحلبجة، يشتكي الناس من نقص الخدمات الأساسية كالطرق المعبدة والوظائف والكهرباء.
كان مقتل كرمياني أحدث الاعتداءات البارزة على الصحفيين في المنطقة الكردية، لكن هذه الجريمة لم تكن حالة معزولة. ففي غضون السنوات القليلة الماضية، سجل ‘مركز مترو للدفاع عن حقوق الصحفيين’، وهو مركز غير ربحي يتخذ من السليمانية مقراً له، وبالتفصيل نحو 700 حالة اعتداء على الصحفيين، بما في ذلك التهديد والمضايقة والضرب والاعتقال والترهيب وإحراق الممتلكات. وقد مرَّ معظم هذه الاعتداءات دون عقاب.